أصدر الكونجرس الأمريكي في عام1995 قانونا ينص أن علي الولاياتالمتحدة نقل سفارتها من تل أبيب إلي مدينة القدس, إلا أنه تضمن استثناء يسمح للإدارة الأمريكية بتأجيل تنفيذه كل ستة أشهر لما لتنفيذه من الإضرار بالأمن القومي والمصلحة الأمريكية. وعلي مدار أكثر من عقدين أرجأ رؤساء الولاياتالمتحدة السابقين من الحزبين الجمهوري( جورج دبليو بوش) والديمقراطي( بيل كلينتون وباراك أوباما) تنفيذه. وفي تخل عن السياسة الخارجية الأمريكية منذ عقود التي ترفض الاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل, اعترف الرئيس دونالد ترامب في السادس من ديسمبر بأن القدس عاصمة للدولة الإسرائيلية, كما أمر بنقل سفارة دولته إلي المدينة التاريخية, علي الرغم من تأجيل نقلها في الأول من يونيو الماضي; لدفع عملية السلام. بيد أن القرار من شأنه تهديد جهود عملية السلام بالشرق الأوسط, وإغضاب حلفاء وخصوم الولاياتالمتحدة إقليميا ودوليا علي حد سواء في وقت كانت فيه الدول العربية والمجتمع الدولي في انتظار صفقة القرن التي ستحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي حيث أعلن ترامب منذ اليوم الأول له في البيت الأبيض أن لديه قدرات للتوصل لاتفاق سيرسي السلام في المنطقة, وقد عكف فريقه الخاص بعملية السلام الذي يضم صهره جاريد كوشنير ومبعوثه الخاص للمفاوضات الدولية جيسون جرينبلات منذ ثمانية أشهر علي الترويج لقدرات الإدارة لعقد تلك الصفقة خلال لقاءاتهما ومحادثاتهما مع الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي, والدول العربية المعنية بعملية السلام. لكن بعد إعلان الإدارة الأمريكية عن خطوة الاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل, وتوجيه وزارة الخارجية الأمريكية إلي بحث ترتيبات نقل سفارتها إلي القدس لم يعد بمقدور الولاياتالمتحدة أن تقدم نفسها كوسيط نزيه وعادل في عملية السلام بعد انحيازها الفج للجانب الإسرائيلي, حيث أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس في تعليقه علي الإعلان الأمريكي بشأن مدينة القدس, أن الولاياتالمتحدة فقدت موقعها كوسيط يفترض فيه الحياد في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي, وأن قرار الرئيس الأمريكي بشأن المدينة التاريخية قد قضي علي فرص التوصل إلي سلام في المنطقة, وأنه ينذر بتحول الصراع السياسي إلي صراع ديني. وقد سبق القرار الأمريكي الأخير بشأن القدس تطوران كشفا عن بدايات تراجع الدور الأمريكي كوسيط محايد في عملية السلام. كان أولهما في السابع عشر من نوفمبر الماضي بإغلاق مقررات منظمة التحرير الفلسطينية بالعاصمة الأمريكية( واشنطن) للضغط علي السلطة الفلسطينية للقبول بالشروط الأمريكية لعلمية السلام. وفي الخامس من ديسمبر الجاري وقبل يوم مع اعتراف ترامب بأن القدس عاصمة لإسرائيل صوت مجلس النواب بالإجماع لتبني قانون تايلور الذي يوقف المساعدات الأمريكية للسلطة الفلسطينية ما لم توقف دفع رواتب شهرية إلي أسر المسلحين الذين يقومون بعمليات عسكرية ضد إسرائيل. يأتي قرار الرئيس الأمريكي للاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلي القدس رغم تحذيرات الدول العربية والإسلامية من مغبة هذا القرار ليس علي عملية السلام فقط, ولكن علي أمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط للمكانة الدينية للقدس لدي المسلمين في كافة أنحاء العالم, متسقا مع سياساته منذ اليوم الأول له التي لا تراعي مصالح حلفاء الولاياتالمتحدة التقليديين, والالتزام بالسياسة الخارجية الأمريكية التقليدية منذ عقود, وكذلك الانصياع إلي قرارات المؤسسات الدولية وخاصة الأممالمتحدة, وذلك يرجع لعدم خبرة الرئيس وأغلب مستشاريه بقضايا الشئون الدولية, ورغبته في إحداث نقلة في السياسات الأمريكية دوليا, وإن كانت في حقيقة الأمر تمثل تهديدا للمصالح والأمن القومي الأمريكي علي المدي الطويل, وهو ما يكشف معارضة مؤسسات صنع القرار الأمريكي مثل أبرز أعضاء الكونجرس ووزارتي الخارجية والدفاع لكثير من قرارات وسياسات الرئيس تجاه الأزمات الدولية, ومنها قراره الأخير بشأن مدينة القدس. وعلي الرغم من أن ترامب أشار إلي أن قراره بشأن المدينة لا يعني أن الولاياتالمتحدة تتخذ موقفا ضد القضايا الحساسة موضع الصراع, بما فيها حدود السيادة الإسرائيلية علي القدس, أو ترسيم حدود غير متفق عليها, وأنها ستظل مصممة علي المساعدة في تسهيل التوصل إلي اتفاق سلام مقبول بين الطرفين, وأنه يسعي للمساعدة للتوصل إلي مثل هذا الاتفاق, فإنه لم يتحدث في المقابل عن وضع الفلسطينيين في المدينة. ولهذا فإن الاعتراف الأمريكي بالقدس كعاصمة لإسرائيل ينسف دور الولاياتالمتحدة في مفاوضات السلام الفلسطينية الإسرائيلية, لأسباب ثلاثة, هي: أولها: أن القرار ينتهك قرارات أصدرها مجلس الأمن الدولي تعتبر الأراضي التي احتلتها إسرائيل في عام1967, ومن ضمنها القدسالشرقية أراضي محتلة. فالمجتمع الدولي لا يعترف بالسيادة الإسرائيلية علي المدينة, التي تضم مواقع مقدسة للمسلمين والمسيحيين واليهود, بأكملها, حيث يري أن وضعها يجب أن تحدده المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ثانيها: أن قضية القدس هي القضية المركزية في مفاوضات السلام الفلسطينية الإسرائيلية, ومن الصعب علي أي مفاوض فلسطيني الجلوس علي طاولة المفاوضات انطلاقا من أن القدسالمحتلة عاصمة للدولة الإسرائيلية, وذلك في ظل الإجماع بين كافة الفصائل الفلسطينية علي أن القدسالشرقية هي عاصمة الدولة الفلسطينية في أي مفاوضات سلام. ولن تنال أي تسوية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي شرعية في الأوساط الشعبية الفلسطينية بدون الاعتراف بالقدسالشرقية كعاصمة لفلسطين. ناهيك عن إمكانية تسويقها عربيا وإسلاميا, حيث تمثل مدينة القدس رمزية دينية لملايين المسلمين حول العالم. وينسف قرار ترامب بأن القدس عاصمة إسرائيل دور الولاياتالمتحدة كراع لجهود السلام, وسياسة أمريكية تقليدية علي مدي عقود عدة تقوم علي أن قضية القدس لا يمكن أن تحل إلا من خلال المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية. ثالثا: كشف إعلان الرئيس الأمريكي أن القدس عاصمة لإسرائيل عن مدي تحيز الإدارة الأمريكية للحكومة الإسرائيلية اليمينية, وأنها وسيط غير منصف وغير عادل,وغير مؤهل للعلب دور الوسيط في عملية السلام لا سيما مع اعتقاد الكثيرين أن الإدارة قد تستخدم ورقة الاعتراف بالقدس للضغط علي المفاوض الفلسطيني لقبول تسوية قد تسقط الكثير من الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني خاصة في ظل الصمت العربي, وتراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية مع تعاظم التحديات الداخلية التي تواجهها الدول العربية بعد ثورات الربيع العربي. في التحليل الأخير, إن اعتراف الرئيس الأمريكي بأن القدس عاصمة للدولة الإسرائيلية, وتوجيه وزارة الخارجية لنقل سفارة الولاياتالمتحدة من تل أبيب إلي القدس ينسف أي دور مستقبلي للإدارة الأمريكية في عملية السلام كوسيط عادل بعد الانحياز الفج لتل أبيب في أكثر القضايا الخلافية في عملية السلام, خاصة مع التمسك الفلسطيني رسميا وشعبيا بالقدس كعاصمة للدولة الفلسطينية, وصعوبة تسويق أي تسوية فلسطينيا وعربيا وإسلاميا لا تنص علي أن المدينة عاصمة للدولة الفلسطينية. وأعتقد أن الرئيس لن يتراجع عن هذا القرار لأنه محاط بمسئولين يدينون بالولاء الأيديولوجي لإسرائيل, ولأن هذا القرار يعزز من شعبيته بين قاعدته الانتخابية من اليمينيين لا سيما في وقت تهتز فيه شرعيته مع الأزمات التي يواجهها داخليا.