إنها حديقة الشر, لكن لها جاذبية آسرة, هي مرتع الشيطان الذي يحلو للجميع ارتياده, إنها معجم الأساطير الذي تحتشد داخله كل المذهلات والغرائبيات, إنها الطوفان الذي يحرك قوس التاريخ لكن ليس نحو الهدف الإنساني الأسمي, إنها فكرة الجنون تلك التي تعتقل الحرية وتسقط العدالة وتتهمها وتدحض الإخاء ولا تعلي إلا صوت الذات.. تصعق المباديء وتسحق القيم وتتجاهل الحقائق وتسفه الشفافية وتجانب الوضوح وتكره الصدق ولا توقن مطلقا بان الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين لأنها توقن ببعد النقطتين مهما قربت المسافات!! إنها ملحمة دهاء العقل الصراعي المراوغ.. العقل القمعي المتحصن بأوتاد السلطة وشموخها.. الخائن لأبجديات المثل والذي لا يصد جموحه شيء حتي لو ارتطم بأبعاد الكون الأربعة.. نعم إنه ذلك العقل الذي لا يعنيه ذلك التناقض الصارخ بين اللحظات لأنه يعتبره ممثلا لقيمة عليا فائقة بل إنه يعد دليلا دامغا علي صحة الفكرة واستقامتها لديه!! وبالطبع هو ما جعل البشرية بأسرها تعيش قرونا من الحروب الطاحنة وأياما معدودات من السلام الشاحب ولحظات من الأمن والاستقرار. إنها ليست إلا السياسة أو لعنة السياسة أو معادلة الأخطاء تلك التي أطاحت دوما بأحلام الشعوب وكسرت إرادتها وفككت أوصالها واستبدلت هويتها حتي إن ضحاياها قد جاوز ضحايا الحروب, من ثم فهي لم تشعل يوما فتيل ثورة إنسانية أو أخلاقية وإنما تتذرع بقشور هذه وتلك.. ليس إكبارا للسلطة الأخلاقية وإنما حفاظا واستمساكا بصولجان تلك السلطة الأخري الزائلة, من ثم نراها تنطلق في قناعة خفية مؤكدة لذاتها مبدأ عكسيا هوان الأنظمة سيدة الشعوب بينما هي في ذات الآن تغوص في إطار علاقة إستسلامية تظل خلالها مستعبدة من أنظمة تسلطية أخري أشد بأسا وضراوة.. وهي في طواعية محببة تحظي بشرف أن تصبح أنظمة عميلة للكتلة المعادية حفاظا علي مقامات السيادة مهما بلغت أثمانها الفادحة, وبين فنون نظرية السيطرة والاستحواذ وفلسفة البقاء والاستمرار تتحسس الأنظمة خطاها الدؤوبة في مسارات التملق والاسترضاء والمهادنة والترغيب وغير ذلك من شتي الموبقات التاريخية. ولعل كل الأنظمة السياسية دائما ما توجه طاقاتها العدائية لأي رمز ثقافي أو جبهة فكرية تزحزحها عن وضعيتها حين تؤسس لوجود وعي جماهيري صلد حر منفلت من خيوط أيديولوجية النظام الذي يصارع دوما وفي وحشية- لخلق منظومة معرفية تخترق العقل الجمعي وتصبح محققة للتواصل بحيث تسود أجواء سكونية يحال معها الصدام, وبحيث يصبح الحوار كأنه حوار مع الذات يمكن فيه استقطاب الشطحات وتحجيم الأفكار الخارجة عن النسق وتطويق الخلاف حول المرجعيات وقمع الأهواء المارقة والمتضادة مع المصالح. إن التاريخ السياسي لابد أن يتواجه في لحظته هذه ببعض التساؤلات المرتبطة بالظرف المستقبلي الذي سيتغير معه وجه العالم لوجه غير مألوف وربما مستنكر, من ثم تري هل تتوجه البوصلة السياسية نحو شطآن الثقافة ملتمسة عبورا فريدا نحو التعقل والرشادة؟ وما هي الملامح المستقبلية للسياسة في إطار سطوة الإنطلاقة المعلوماتية الجبارة؟ وهل ستظل آنذاك توظف الأسطورة أم تضطر إلي إستحداث تقنيات أخري غير تلك التي خطتها نظريات السياسة والإستراتيجية؟ وهل تحتم اللحظة المستقبلية أن تغير السياسة من لغة الإذعان إلي لغة الاختيار؟ وكيف يمكن تغييب فكرة الاستعمار من عقل الساسة وهي لا تزال بصماتها بارزة تطل علي العالم وإن اختلفت آلياتها؟ ومتي يمكن اعتمادها كفكرة بربرية تتعدد دلالتها السلبية وتعد مشيرة في مضمونها إلي عمق الرجعية؟ وإذا كانت السياسة بكل زخمها التاريخي قد ظلت خارج منظومة القيم الرفيعة فكيف لها أن تتسم بطابع إنساني؟! إن السياسة وفي جملتها إنما تتبلور في كونها بوتقة تفاعلات سلبية تتمدد وتنكمش في إطار علاقات نفوذ واستعلاء وعلاقات تقويم ومقاومة, وعلاقات موافقة واعتراض, علاقات سخط وسخط/... إنه لولا السياسة ما عرفت البشرية معان الظلم/ الإستبداد/ الطغيان/ القمع/ الوحشية/ التسلط/ الحجر/ الأحادية/ الهيمنة/ الاعتقال/ الاغتيال/ الهزيمة/ الإبادة. لكن أيضا لم يكن لها أن تعرف معاني الحرية/ العدالة/ الشرعية/ الديمقراطية/ المقاومة/ النضال/ البطولة/ التسامح/ التعايش/ الثورة. هذه هي السياسة.. ذلك المعني الأوحد الذي يتم خلاله أن تكون المحظورات مبيحة للضرورات.