كان زكي نجيب محمود يصف الدكتور جمال حمدان بأنه الجغرافي العجيب لأنه حول مادة تخصصه الاكاديمية الجامعية مثل هذا التحول الذي يستخدمها به في ميادين هي من صميم الحياة الجارية في أعلي مستوياتها ففي كتابه استراتيجية الاستعمار والتحرير يعطينا الابعاد التاريخية للمشكلات السياسية الحادة, وهو في الوقت نفسه يحدثك بلغة الجغرافيا; ولم لا ؟ أليست حقيقة الأمر كما يقول في مقدمة كتابه هي ان التاريخ هو معمل الجغرافي.. وليس التاريخ الا جغرافيا متحركة, بينما الجغرافيا تاريخ توقف. وليس الحديث هنا حديث الخطيب الذي يسعي الي اثارة مشاعرك القومية, بل هو حديث العالم الذي يقيم بناءه علي الوقائع والمقارنات العلمية الصحيحة, فهو يتحدث عن الدولة العربية كيف جاءت جامعة للقوتين: قوة البر وقوة البحر, فكانت علي حد تعبيره قوة امفيبية, تضع قدما في الماء وأخري علي اليابس. وبملاحظات الدكتور زكي نجيب محمود الحصيفة نفسها جاء كتاب جمال حمدان في دراسته عن ملحمة أكتوبر في عرض منهجي علمي( لا اعلامي) ومسح عام ولكنه شامل في حدود المكان والمتاح, لتلك المعركة المجيدة لا يضعها هي وحدها فقط في البؤرة وتحت المجهر, وانما كذلك يضع الصراع المصيري كله في اطارها, كذلك وضع المعركة في المنظور العالمي الواسع, بحيث نحدد مكانها من الاستراتيجية الكوكبية وقعا وموقعا, ودورا ووظيفة. وهكذا مضي حمدان في كتابه6 اكتوبر في الاستراتيجية العالمية يقول العالم الجليل في مقدمة الكتاب مخطئا, جدا من ينظر إلي معركة سيناء والجولان المظفرة, التي عاشها وما زال يعيشها كل عرب بكل خلجة وخلية من اعصابه ووجدانه, وبكل نبضة وومضة في قلبه وكيانه. نقول مخطئا, هو جدا حين ينظر إليها في اطارها الضيق وفي ابعادها المحلية كمجرد النقيض الموضوعي لمعركة يونيو 1967. ويضيف ان 6 اكتوبر سوف يسجله التاريخ كأخطر وأفعل, مثلما هو أعظم وأروع, تحول مؤثر في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي وبالتالي في تاريخ العرب جميعا, ومن دون إفراط في المبالغة في تاريخ العالم المرئي كله. ولان المعركة تمت في ارض سيناء بجغرافيتها المتعددة, فقد أمتعنا وأبهرنا العالم الجليل بغزير علمه وتمكنه. وتحدث العالم الجليل عن عنصر المفاجأة, والتخطيط المحكم واختيار يوم كيبور( يوم الغفران) وهو عيد مقدس عند اسرائيل في السادس من اكتوبر, كان انسب يوم لعبور قناة السويس حيث تقل فيه سرعة تيارات القناة ويصل فيه مدي المد والجزر إلي حده الادني كما ان ليل اكتوبر طويل يمنح العملية اطول وقت ممكن. وساعة العبور كانت آخر ساعة يتوقعها العدو; فكل العمليات العسكرية تبدأ كقاعدة عامة إما مع أول ضوء في الشروق أو مع آخر ضوء في الغروب, ولكن الخطة اختارت قلب النهار وفي وضحه, الثانية بعد الظهر الذي يسبق آخر ضوء بنحو4 ساعات, يكفل ايضا الاستفادة بضوء النهار طيلة هذه الساعات الاربع, وبحيث تكون عين العدو في عين الشمس وليس العكس وغيرها مما يفرده في كتابه من عناصر المفاجأة الكاملة للعدو التي اطارت صوابه ووضعته في حالة من انعدام الوزن عسكريا وسياسيا. ونصر اكتوبر فتح باب الأمل لمصر علي مصراعيه وهيأ الأرضية لعملية التجدد القومي.