جاءني رجل وقال لي: لا تصدق.. ما أنت إلا ابن الصدفة العمياء.. وصراع العناصر.. بلا هدف جئت.. وبلا هدف تذهب.. وكأنك لم تكن. فقلت له: سبق ان صدق أبوك ما لا يجب تصديقه.. فخسر الراحة والنعيم. تذكرت تلك التأملية الصوفية الرائعة التي قرأتها في إحدي كتابات نجيب محفوظ وانا أتابع مناظرة ثرية بين كل من ديباك شوبرا وريتشارد دوكينز حول الإيمان والإلحاد.. منطق ديباك شوبرا وحجته كانت- من وجهه نظري- هي الأقوي بما لا يقاس.. ولكن دعني عزيزي القارئ أقدم الرجلين أولا قبل أن أعلق علي مقتطفات من المناظرة. دوكينز هو عالم أحياء تطوري وأستاذ جامعي مرموق وكاتب اكتسب شهرة واسعة من مؤلفاته العلمية. لا يخفي دوكينز إلحاده فهو يعتقد أن العلم الحديث يمكنه تفسير نشأة الكون بدون خالق. يزعم دوكينز أن نظرية التطور عبر الإنتخاب الطبيعي والتي أسسها داروين يمكنها تفسير تنوع الأحياء بدون الحاجة لوجود مصمم ذكي( ملحوظة: داروين نفسه لم يكن ملحدا). أيضا يتفق دوكينز مع آراء عالم النفس الشهير سيجموند فرويد الذي يري أن الإيمان الديني ما هو إلا وهم مصدره الخوف من الموت والحاجة الطفولية إلي حامي وأب. في عام2006 كتب دوكينز كتابه الذي يروج لإفكاره وهو وهم الإله ورؤيته هي أن الحياة التي نحياها هي الأولي والأخيرة وأنه ينبغي أن نكون ممتنين لتلك الفرصة التي أتاحتها لنا الصدفة العمياء ونتقبل بشجاعة فكرة الموت بدون عزاء أو أوهام في حياة أخري. منذ كتابه المذكور ودوكينز يروج لافكاره الإلحادية في العديد من القنوات التليفزيونية التي تستضيفه.. مؤخرا دعت كنيسة الفاتيكان رعاياها أن يصلوا من أجل هدايته( لاحظ لم يدع لإهدار دمه وإنما الصلاة لأجله). ديباك شوبرا هو طبيب هندي هاجر للولايات المتحدة في عام.1970 برغم نبوغه المبكر كطبيب فقد كان عاشقا للطب الروحي ومن ثم تعمق في دراسته وأسس الطب البديل. قام شوبرا بتأليف65 كتابا في الروحانيات والطب البديل وإكتسب شهرة عالية لعلاج العديد من مشاهير هوليوود وكبار رجال الأعمال.آخر كتاب لشوبرا هو محمد, آخر الأنبياء, وقد تعرض كتابه لنقد شديد من رافضي الإسلام كدين سماوي ولكنه لم يأبه بالهجوم واستمر في طريقه. نعود الآن للمناظرة. دوكينز وشوبرا يشتركان في الخلفية العلمية فكلاهما درس البيولوجي وعلوم المخ والأعصاب وتعمق في الفيزياء الكمية. لكن فيما عدا ذلك فهما مختلفان حتي النقيض. شوبرا يري أنه يوجد وعي شامل للكون ونحن جزء منه أما دوكينز فيري أن هناك فقط كائنات واعية في الكون نحن منها وأختلف الأثنان في تعريف معني الوعي. شوبرا يري أن هناك أناسا فائقين وصلوا إلي أعلي درجات السمو الروحي والتوحد مع الكون بالعبادات والتأمل والصلاة وتلك تجربة متاحة للكل ودوكينز لا يتفق معه. شوبرا يري أن الدين مثل العلم ينبغي أن يكون قوة دافعة للخير ولكنه قد يستغل في الشر ويتسلل له العطب من خلال مؤسسات دينية فاسدة. دوكينز يري أن التلقين الديني لأي دين في الطفولة هو أمر غير جيد حيث يمكن غسيل مخ الأطفال بأفكار خاطئة يكون من الصعب التخلص منها بعد ذلك. لم يتفق الطرفان بطبيعة الحال ولكن السؤال الذي خطر لي: اذا أمكن حقا تفسير نشأه الكون بقوانين ومعادلات رياضية كما يزعم رواد الفيزياء الكمية, فمن الذي وضع تلك القوانين؟ ثم تذكرت الآية الكريمة: يجادلون في الله وهو شديد المحال.