لن ترتدع إسرائيل أو تهدأ ثائرتها وتحيد عن مسارها المتطرف سياسيا واستراتيجيا وعقائديا إلا حين تتواجه بقوة مضادة تحمل في روحها كبت العقود الماضية التي ولدتها أنهار الدم العربي وتستحضر مخططات التواطؤ الغربي وتستدعي المظالم من ذاكرة النسيان وتجيد إدارة الصراع علي نحو يفقد الخصم توازنه أو يخل به علي التقدير الأقل وإلا سوف تستمر مسيرة الطغيان الصهيوني حاصدة لأجيال عربية متعاقبة في اتجاه تصفية القضية وإحالتها إلي لا شيء. ولقد مثلت العاصفة الأخيرة حول الأقصي زلزالا قويا للدولة العبرية بحيث جعلها تتراجع عن خطواتها في سهولة من تدارك أخطائه بعد شوط من التعنت كان مصدره الحماقة المعتادة والتأييد الأمريكي المطلق المعتبر أن الفعل الصهيوني لا يمكن التعامل معه باعتباره إلا جزءا حيويا من مكافحة الإرهاب لذا فإنها تمتدح المساعي الإسرائيلية الراهنة للحفاظ علي الأمن وتقليص حدة التوترات في المنطقة العربية. كما مثلت للجبهة الفلسطينية معاني عدة منها الإصرار والصمود والتحدي والوحدة والبسالة والبطولة والتضرع, وغير ذلك من المعاني التاريخية الرائدة, لكن تتزحزح قليلا أو كثيرا ولم تتغير معطياتها, إذ أن إحباط محاولات الاعتداء علي الأقصي لا يمثل إضافة أو بعدا محدثا لتحول غير عادي, إذ أن تاريخ القضية يحتم علي الجبهة العربية حلا جذريا يقتضي رفع لواء الثورة الدائمة, وتجديد آليات ثورة البراق الحادثة قبل تسعة عقود, والتي كان ضمن بواعثها الاستفزازية رفع العلم الصهيوني والهتاف الزائف الحائط حائطنا وكان من آثارها صدور قرار الحكومة البريطانية بأن حائط البراق هو جزء من المسجد الأقصي بل إن المنطقة كلها ملك إسلامي محض استنادا علي كذب الإدعاءات اليهودية بقدسية الحائط إذ أنه وحتي عام1860, كان اليهود يقفون علي جبل الزيتون متجهين نحو الجبهة الشرقية في صلواتهم وهو ما يعني بالضرورة المنطقية أن حائط البراق لم يكن في ذاته مقدسا في تلك الآونة!! لكن ما هي دوافع النداء هذه المرة للثورة بأي معني من معانيها أو بكل معني من معانيها تحريرا للقدس والأقصي من قبضة الأسر والقهر؟ لأن تلك الثورة المستقبلية للفلسطينيين والجبهة العربية عموما ستنحصر انعكاساتها الآجلة والعاجلة في إجبار كيانات المجتمع الدولي لممارسة ضغوط غير مسبوقة علي إسرائيل ليس مناصرة للحق العربي الإسلامي لكن أملا في تجنب شرارة الحرب الدينية في الشرق الأوسط خشية أن تتورط فيها تلك الكيانات علي أصعدة مختلفة يتصدرها تناقض المصالح, ولعل من دواعي الثورة كذلك هو عدم عدول الدولة العبرية عن ممارسة إجراءات تعسفية جديدة قد ترتب عليها رد فعل تمثل في اجتياح مئات اليهود باحات الأقصي ينتظر بعد سبعة عقود تم خلالها سرقة الأرض والتاريخ وسحق البشر تحت وطأة قوانين عنصرية؟ وماذا بعد عشرات القرارات الدولية المسجلة لإدانة وحشية الدولة العبرية وانتهاكاتها؟ وما هي الفروق المعنوية والقيمية الدقيقة بين استعمار الأرض واستعمار المقدس؟ لماذا وكيف نندهش من صمت الإدارة الأمريكية ونعتبره لغزا محيرا بينما هو نمطية أمريكية قديمة؟ ولماذا لا نعتقد في أن تراجع الدولة العبرية عن موقفها الإجرائي مع الأقصي هو مراوغة جديدة لطرح بدائل أعلي واستخدام منهج التراجع كخطوة للتقدم خطوتين؟؟ إن قضية الأقصي قد طال أمد الفصل فيها سياسيا رغم أنها محسومة تاريخيا وعقائديا لكن يبدو أن ذلك لا يعد كافيا في ظل السياسات العالمية الطائشة والجائرة التي أطاحت بالعرب وأعلت من شأن الكيان الإرهابي المسمي بالدولة العبرية المتسلطة والمحترفة حياكة الدسائس والفتن الكونية لكن سيظل الحق العربي الإسلامي راسخا مخترقا سبل المستحيلات بفعل إرادة القوة وليس بفعل إدارة القوة!!