ما زالت قضايا الفكر علي اختلاف أنواعه مثار اهتمام الدول والحضارات سواء كان فكرا اجتماعيا أو اقتصاديا أو دينيا أوسياسيا, علي اعتبار أن الجنس البشري في عمومه يتسم بالتفكر في الأشياء بهدف تنظيم حياته علي نحو أفضل, عن طريق التفكير في مختلف المشكلات والظواهر التي تواجهه عبر مختلف الأزمنة لإيجاد حلول لها يرتضيها ويطبقها كل من يري فيها نوع الملاءمة لظروفه ومتطلباته. تأكيدا علي الحقيقة التاريخية السالفة وايمانا من مؤسسات الدولة العلمية والثقافية بها فقد صدر حديثا عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة واحد من المؤلفات الضخمة في طبعة أنيقة يحمل عنوان الفكر السياسي عند اليونان والرومان المترجم عن أحد مجلدات موسوعة كمبريدج في التاريخ القديم. والمجلد في لغته الأصلية جاء بتحرير عدد من الاعلام المتخصصين في مجال دراسة الفكر السياسي الكلاسيكي مثل كريستوفر روي ومالكوم سكوفيلد وسيمون هاريسون وميليسا لين, وقام بترجمته والتقديم التاريخي له كل من محمد السيد عبد الغني ومجدي السيد أحمد كيلاني الأستاذين بآداب الاسكندرية, وقام بمراجعته وسام عبد العزيز فرج بآداب المنصورة. وفي واقع الأمر فأسماء المترجمين والمراجع وثقلهم العلمي وقيمتهم الاكاديمية لا تقل بأي حال عن اسماء محرري المجلد الذي سأحاول خلال السطور التالية عرض بعض قضاياه ذات الأهمية العلمية والتاريخية والفكرية من وجهة نظري, في محاولة متواضعة لنشر ثقافة الفكر السياسي لدي القارئ العربي بوجه عام والمصري علي وجه الخصوص. يأتي المجلد محل الحديث في عدد1037 صفحة شاملا31 مقالا علميا متخصصا متنوعا: إذ يبدأ المجلد بالحديث عن السياق التاريخي للفكر السياسي اليوناني القديم, ثم يعقبه حديث عن بدايات ظهور الفكر السياسي في اليونان في العصر القديم عند الشعراء والمشرعين. ويلي ذلك حديث يوضح العلاقة الوثيقة بين الدراما لدي اليونانيين والنظرية السياسية وكيف وظفت الدراما لصياغة عددا من النظريات السياسية التي حملت بذور الفكر السياسي اليوناني, ويكتمل ثراء المجلد بالحديث عن الفكر السياسي لدي أشهر مؤرخي العالم قديما وحديثا وهو هيرودوت حائز لقب أبو التاريخ وتلميذه الأشهر ثوكيديديس انتهاء بأشهر مدرسة فلسفية وفكرية وهي السوفسطائية. ولم يقف الباحثون المشاركون بهذا المجلد عند السوفسطائية بل تجدهم يعرضون للفكر السياسي وبذوره لدي فيلسوف الذرة اليوناني ديموقريطوس, وكذلك تعرضوا لملامح الفكر السياسي وأسسه ونظرياته من خلال اشهر الخطباء في بلاد اليونان القديمة. وكما كان للمؤرخين اسهامهم في تسجيل ملامح الفكر السياسي اليوناني القديم سواء قام بعضهم بذلك بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر, لم يتوان اشهر الفلاسفة اليونانيين أيضا عن أن يدلي كل منهم بدلوه في المجال نفسه فها هو سقراط وتلميذه افلاطون صاحب المحاورات الشهيرة وها هو ارسطو صاحب الفكر الموسوعي يقدم لنا دساتير وصفت بالأرسطية. ويبدو أن الفلاسفة قد استهواهم دراسة الفكر السياسي والتعرف عليه وتقديم النظريات المختلفة بشأنه في فترة لاحقة من عمر الحضارة الكلاسيكية, حيث شهد العصران الهلينستي والروماني اهتماما واسعا بالتعرف علي ماهية الفكر السياسي وأفضل السبل والنظريات التي تصلح لتطبيقه علي أرض الواقع: فها هم الكلبيون يقدمون محاولتهم الفكرية في هذا الاطار, يليهم الابيقوريون والرواقيون. وفي العصر الروماني تبرز كتابات الخطيب الروماني الأشهر شيشرون ومن بعده سينيكا وبليني وما إلي آخره من مفكرين وكتاب وصولا لظهور المسيحية وعلاقتها قديما بالفكر السياسي تأثيرا وتأثرا.