في خضم حالة الجدل الكثيف والعنيف الذي تموج به الحالة المصرية بشكل عام, والذي يتجدد مع كل أزمة, سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو ناتجة عن أعمال العنف والإرهاب.. في خضم هذه الحالة يمكننا أن نلاحظ بالعين المجردة أن النقاشات الدائرة تنطلق بالأساس من صور ذهنية عن مصر والمنطفة لم تعد مطابقة للواقع, إذ إنها تعود في الأغلب إلي عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي, حينما كانت مصر تعيش في عنفوان ثورة يوليو وتأميم قناة السويس وتنطلق في مسيرة واعدة نحو التنمية والتصنيع, وخارجيا كانت تقود حركة الحياد الإيجابي ثم عدم الانحياز, وتدعم حركات التحرر في إفريقيا وتلعب أدوارا أساسية في إنشاء منظمة الوحدة الإفريقية.. كان خطاب القاهرة وما يصدر عنها من نداءات عبر وسائل إعلامها المتفوقة في ذلك الوقت يجد آذانا مصغية في كل انحاء العالم العربي من المحيط الهادر إلي الساحل المتهادن كما كان يقال آنذاك.. بل بلغ آفاقا أرحب وآمادا أوسع الي افريقيا والعالم الثالث. منذ ذلك الوقت جرت في النهر مياه كثيرة, وتغير النظام الدولي القائم علي القطبية الثنائية والحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي السابق, الأمر الذي كان يوفر لمصر القدرة علي المناورة ويوفر لها بدائل الحركة, وأصبحنا في مرحلة القطب الأمريكي الواحد.. وفي السياق ذاته تغير الاقليم وتغيرت المنطقة العربية, فتدفقات النفط رسمت خرائط جديدة للثروة والنفوذ, كما أن قضية فلسطين الشهيرة بقضية العرب المركزية لم تعد كذلك, إذ إن خرائط التهديد للعالم العربي كنظام اقليمي أو كمصالح قطرية قد تعرضت للحذف والإضافة, بل واختلطت أحيانا الاوراق فلم يعد هناك تعريف يحظي بتوافق عام عمن هو العدو ومن هو الصديق ؟ اما في الداخل المصري وهذه هي النقطة الأهم, فقد تغيرت الأوضاع والتوجهات السياسية وكذلك الاقتصادية في مصر في عهدي السادات ومبارك, ونتج عن ذلك ارتباكات كثيرة وتشوهات في بنية الاقتصاد والمجتمع.. وعلي المستوي الخارجي بدأ الدور المصري في التراجع والانسحاب مفسحا الطريق أمام ادوار أخري صاعدة, بعضها استنادا إلي آسس قائمة او متصورة, وبعضها يقوده الوهم والبحث عن المكانة إلي لعب ادوار الوكالة لقوي من خارج المنطقة فتحول الطموح والحضور الي اداة هدم بدل ان يكون عضدا وسندا لامته وقضاياها. في هذا السياق أصبح واجبا أن نقف الآن وقفة صادقة مع النفس, فبعد ثورتين كبيرتين, وبعد انهيار مجمل الأوضاع المرتبكة والمختلطة والتي استمرت اربعة عقود بفعل الدفع الذاتي وصبر ومثابرة هذا الشعب العظيم, لم يعد ممكنا ان نستمر في بناء خطط المستقبل وتصوراتنا له بناء علي صور ذهنية لم تعد قائمة, فقد تغيرت كل الظروف وكل الفاعلين, ومن ثم علينا أن ننظر في أوضاعنا لكي نقرأها بدقة ونكون علي المام تام وتفصيلي بالتحديات والتهديدات, وأيضا الفرص المتاحة, وهذا يترتب علية ان نعيد تعريف مصالحنا بدقة, وأن نحسب كل خطواتنا بموضوعية وتوازن, فالاصلاح الاقتصادي ذو فاتورة باهظة ومن الغبن أن تتحمله الطبقات المغبونة وحدها والتي اصبح ظهرها للحائط, وفي الخارج ينبغي ألا نكتفي بالكلام المرسل الغامض, بل علينا ان نمتلك الشجاعة الكافية لإعادة تعريف مصالحنا بدقة, الأمر الذي سينتج عنه بالتأكيد إعادة تحديد الأهداف ومن ثم خطط العمل.