هانئ رسلان فى خضم حالة الجدل الكثيف والعنيف الذي تموج به مصر منذ ثورة يناير وما بعدها، تطغى على النقاشات المحتدمة بين مختلف الأطراف، العديد من الصور الذهنية المفارقة للواقع، فبينما يطالب البعض بالعودة إلى فردوس مفقود، لم يعد قائما منذ أربعة عشر قرنا حين انتهى عصر الخلافة الراشدة، نجد أن آخرين ما زالوا يصحبون فى تحليلاتهم أوضاع مصر فى عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، حين كانت مصر تعيش فى مرحلة عنفوان وانطلاق، وكان صوتها مسموعا ومؤثرا فى عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبالإضافة إلى ذلك نجد فريقا ثالثا يركز كل همه فى مطالبات تقيس أوضاع مصر على بلدان العالم الأول، بالحديث فقط عن معايير حقوق الإنسان والديمقراطية الإجرائية بشكلها المعروف فى الغرب، وهذا الفريق يتجاهل عن عمد أو بحسن نية، أن التطور والتقدم يتم بالتدريج ولا يمكن تحقيقه دون وجود البني الاقتصادية والثقافية والاجتماعية المنتجة له، كما أنه لا يمكن تجاهل أو القفز على الأولويات الأساسية للمواطن فى توفير الأمن وتأمين لقمة العيش، والشاهد أن كل هؤلاء الفرقاء يتجاهلون الواقع القائم بشكل مثير للتساؤل، فالبحث عن المستقبل عبر العودة إلى الماضى ضرب من ضروب المستحيل، والقيم والمقاصد يستنزلها كل مجتمع بشرى طبقا للظروف المتغيرة وليس بإعادة عجلة الزمن إلى الوراء، لاسيما وأن الخلافة الراشدة لم تكن كما يريد البعض أن يصورها، حيث تخللتها حروب الردة ومقتل اثنين من الخلفاء الراشدين وأحداث الفتنة الكبرى التي أورثت المسلمين الكثير من الانقسامات الطائفية والمذهبية التي مازالت قائمة حتى اليوم، ومازالت تشكل عبئا هائلا تثقل تداعياته كاهل كثير من البلدان العربية والإسلامية، وفى الوقت نفسه فإن من يتحدثون عن مصر الخمسينيات والستينيات، يتجاهلون أن مياهاً كثيرة قد مرت تحت الجسر، وأن التغيير قد شمل كل شىء، بدءا من مصر نفسها التي اختلفت ملامحها وقسماتها، مرورا بالمنطقة العربية، فتدفقات النفط رسمت خرائط جديدة للثروة، بل إن تعريفات المصالح وخرائط التهديد قد تعرضت لإعادة الصياغة مرات عدة، بل واختلطت الأوراق أحيانا فلم يعد هناك تعريف يحظى بتوافق عام لمن هو العدو ومن هو الصديق؟ انتهاء بتغير النظام الدولي وما ترتب على ذلك من ضيق مساحات الحركة أو القدرة على المناورة. أما فى الداخل المصري، وهذه هي النقطة الأهم فقد تغيرت التوجهات السياسية والاقتصادية وحدثت انتقالات حادة نتجت عنها ارتباكات كثيرة، ثم تحولت ذلك إلى تشوهات فى بنية الاقتصاد والمجتمع، وبدأ الدور المصري الخارجي فى التراجع والانسحاب مفسحا الطريق أمام أدوار أخرى بعضها لم يكن يمتلك المؤهلات الكافية وبعضها الآخر كان ولا يزال مدفوعا بأوهام المكانة والدور لتغطية الحالة القزمية التي يعانيها، فلم يجد سوى أدوار الوكالة لقوى من خارج المنطقة، فى هذا السياق أصبح واجبا أن نقف الآن وقفة صادقة مع النفس، فلم يعد ممكنا أن نستمر فى بناء خطط المستقبل بناء على صور ذهنية لم تعد قائمة، ومن ثم علينا أن ننظر فى أوضاعنا لكي نقرأها بدقة ونكون على إلمام تام وتفصيلي بالتحديات والتهديدات الداخلية والخارجية، وأيضا الفرص المتاحة، الأمر الذي يقتضى أن نعيد تعريف مصالحنا بدقة وليس الاكتفاء بالكلام المرسل الغامض عن تصورات لا تتوافر إمكانية تطبيقها. إن إعادة تعريف المصالح سيقودنا بالتأكيد إلى إعادة صياغة الأهداف، ومن ثم خطط العمل، قصارى القول إننا بحاجة إلى إعادة تموضع شاملة، لكي ندرك أين نقف، وما هو موضعنا على خريطة المنطقة والعالم، ولكي نرصد الأخطار المحدقة بنا من دول الجوار ومن قضايا المياه، ومن تحدى الإرهاب، ومن الاستقطاب الداخلي، علينا أن نحدد مهامنا ومسارات الخروج، بناء على واقعنا وليس بناء على تصوراتنا أو أوهامنا.