كثيرا ما حدثت نفسي عن كيفية سقوط الحضارات العظيمة وأتساءل كيف انتهت الحضارة الفرعونية والحضارة البابلية والحضارة الرومانية والحضارة الصينية والحضارة العربية, إلي أن رأيت بأم عيني انهيار الاتحاد السوفيتي إحدي القوتين العظميتين منذ عقود قليلة. يضع ويل ديورانت الفيلسوف والمؤرخ الأمريكي في بدايات القرن العشرين الميلادي( مؤلف كتاب قصة الحضارة الذي شاركته في تأليفه زوجته) الانهيار الأخلاقي والديني في مقدمة عوامل سقوط الحضارة حيث يقول: الحضارات العظيمة لا تنهزم إلا عندما تدمر نفسها من داخلها, فالأسباب الأساسية لانهيار روما مثلا والحضارة الرومانية بعامة تكمن في شعبها وأخلاقياته, وصراع فئاته وطبقاته, والاستبداد الذي عرفته. وفي دراسة للتاريخ للمؤرخ البريطاني أرنولد توينبي قبيل منتصف القرن الميلادي المنصرم, نجد أن العاملين الأخلاقي والديني يشكلان عصب استمرار الحضارات ويقف الابتعاد عن قيمهما إلي تفسخ المجتمع وانهيار حضارته, ويضيف توينبي- في دراسته للحضارات القديمة والحديثة منذ نشأتها وحتي انهيار بعضها- بعدا آخر مؤداه أن عوامل انبعاث الحضارات من جديد هي نفسها عوامل قيامها في السابق. في تقرير حديث منشور علي موقع هيئة الإذاعة البريطانية تجدد الحديث عن إمكانية انهيار الحضارة الغربية وإن عزي التقرير ذلك لأسباب اقتصادية وبيئية ولكن حال قراءة متأنية للتقرير يتضح أن الطبقية الاقتصادية التي يتحدث عنها التقرير هي في حقيقتها ذات جانب أخلاقي اقتصادي مركب عالجته بعض الحضارات بصورة كاملة ولكن العجلة الدوارة للاقتصاد الرأسمالي لا تلتفت إلا قليلا لتلك العوامل حيث لا يهمها إلا زيادة الإنتاج وبالتالي فتح أسواق جديدة لمنتجاتها سواء داخل تلك الدول أم خارجها لصالح طبقة بعينها. ولقد غفل التقرير بذور قضية عدم المساواة المتجذرة في الفكر الغربي بحكم العقيدة التي أخذت من التراث اليوناني الكثير! لم يكن هذا التقرير الأول من نوعه فلقد بحث صمويل هنتنجنتون في كتابه: من نحن؟ تلك القضية عسي أن يقف علي عامل استمرار وصهر للأمة الأمريكية إن صح التعبير, حيث أرجع مرجعية المجتمع إلي نقطتين هما اللغة الإنجليزية والدين البروتوستانتي. وفي هذا السياق لا يمكن أن نتجاهل دراسة عالم الاقتصاد الفرنسي توماس باكتي: الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين, والتي أبرز فيها غياب العدالة في النظام الرأسمالي وحذر فيها من انهيار الرأسمالية ما لم تتخذ بعض التدابير الاحترازية من خلال دراسة ممتدة شملت العديد من الأقطار الأوروبية والأمريكية خلال عدة عقود. إن المدقق في مآلات العولمة يمكنه أن يستنتج جوانب عديدة لقصور الجنوح إلي الرأسمالية المفرطة أو إلي الشيوعية المفرطة والتي انهارت منشأتها الأولي مع بعض المعالجات التي لا تلبث أن تفضي إلي مشاكل أخري لأن الأساس الذي قامت عليه النظرية الرأسمالية وكذلك النظرية الشيوعية لم يتسم بالعدل في جوانبه المختلفة وبالتالي باتت بعض المعالجات مبتورة. ولا يمكننا أن نغض الطرف عن معالجات جادة لبعض المصارف الأوروبية لمعالجة بعض الجوانب الاقتصادية في منظومة الرأسمالية حيث نجد أن البنوك المركزية في السويد والدنمارك وسويسرا واليابان باتت تدفع نسبة ربح سالبة( أقل من الصفر) لودائع البنوك لديها عكس ما هو ممارس في أغلب الدول. قضية انهيار الحضارات وكيفية تأجيل أو منع انهيارها باتت تؤرق بعض المفكرين في الغرب, ولكن أغلب ظننا أننا سنكتفي بانتظار ذلك الانهيار متوهمين بحصد نتائجه وهو ضرب من المحال بل هو الخبل بعينه فالسماء لا تمطر ذهبا ولا فضة! علينا أن نستيقظ لنعمل لنقدم للعالم نموذجا حيا لقيمنا( المنسية) القائمة علي عدل يجلب معه الحرية كي لا يدهمنا قطار الحضارة. أستاذ هندسة الحاسبات بجامعة الأزهر [email protected]