تنسيق الثانوية العامة 2025 ..شروط التنسيق الداخلي لكلية الآداب جامعة عين شمس    فلكيًا.. موعد إجازة المولد النبوي 2025 في مصر و10 أيام عطلة للموظفين في أغسطس    رسميًا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الجمعة 1 أغسطس 2025    5 أجهزة كهربائية تتسبب في زيادة استهلاك الكهرباء خلال الصيف.. تعرف عليها    أمازون تسجل نتائج قوية في الربع الثاني وتتوقع مبيعات متواصلة رغم الرسوم    إس إن أوتوموتيف تستحوذ على 3 وكالات للسيارات الصينية في مصر    حظر الأسلحة وتدابير إضافية.. الحكومة السلوفينية تصفع إسرائيل بقرارات نارية (تفاصيل)    ترامب: لا أرى نتائج في غزة.. وما يحدث مفجع وعار    الاتحاد الأوروبى يتوقع "التزامات جمركية" من الولايات المتحدة اليوم الجمعة    باختصار.. أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. مستندات المؤامرة.. الإخوان حصلوا على تصريح من دولة الاحتلال للتظاهر ضد مصر.. ومشرعون ديمقراطيون: شركات أمنية أمريكية متورطة فى قتل أهل غزة    مجلس أمناء الحوار الوطنى: "إخوان تل أبيب" متحالفون مع الاحتلال    حماس تدعو لتصعيد الحراك العالمي ضد إبادة وتجويع غزة    كتائب القسام: تدمير دبابة ميركافا لجيش الاحتلال شمال جباليا    عرضان يهددان نجم الأهلي بالرحيل.. إعلامي يكشف التفاصيل    لوهافر عن التعاقد مع نجم الأهلي: «نعاني من أزمة مالية»    محمد إسماعيل يتألق والجزيرى يسجل.. كواليس ودية الزمالك وغزل المحلة    النصر يطير إلى البرتغال بقيادة رونالدو وفيليكس    الدوري الإسباني يرفض تأجيل مباراة ريال مدريد أوساسونا    المصري يفوز على هلال الرياضي التونسي وديًا    انخفاض درجات الحرارة ورياح.. بيان هام من الأرصاد يكشف طقس الساعات المقبلة    عملت في منزل عصام الحضري.. 14 معلومة عن البلوجر «أم مكة» بعد القبض عليها    بعد التصالح وسداد المبالغ المالية.. إخلاء سبيل المتهمين في قضية فساد وزارة التموين    حبس المتهم بطعن زوجته داخل المحكمة بسبب قضية خلع في الإسكندرية    ضياء رشوان: إسرائيل ترتكب جرائم حرب والمتظاهرون ضد مصر جزء من مخطط خبيث    عمرو مهدي: أحببت تجسيد شخصية ألب أرسلان رغم كونها ضيف شرف فى "الحشاشين"    عضو اللجنة العليا بالمهرجان القومي للمسرح يهاجم محيي إسماعيل: احترمناك فأسأت    محيي إسماعيل: تكريم المهرجان القومي للمسرح معجبنيش.. لازم أخذ فلوس وجائزة تشبه الأوسكار    مي فاروق تطرح "أنا اللي مشيت" على "يوتيوب" (فيديو)    تكريم أوائل الشهادات العامة والأزهرية والفنية في بني سويف تقديرا لتفوقهم    تمهيدا لدخولها الخدمة.. تعليمات بسرعة الانتهاء من مشروع محطة رفع صرف صحي الرغامة البلد في أسوان    النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بعدد من مدارس التعليم الفني ب الشرقية (الأماكن)    الزمالك يهزم غزل المحلة 2-1 استعدادًا لانطلاقة بطولة الدوري    اصطدام قطار برصيف محطة السنطة وتوقف حركة القطارات    موندو ديبورتيفو: نيكولاس جاكسون مرشح للانتقال إلى برشلونة    مجلس الشيوخ 2025.. "الوطنية للانتخابات": الاقتراع في دول النزاعات كالسودان سيبدأ من التاسعة صباحا وحتى السادسة مساء    «إيجاس» توقع مع «إيني» و«بي بي» اتفاقية حفر بئر استكشافي بالبحر المتوسط    مجلس الوزراء : السندات المصرية فى الأسواق الدولية تحقق أداء جيدا    فتح باب التقدم للوظائف الإشرافية بتعليم المنيا    رئيس جامعة بنها يصدر عددًا من القرارات والتكليفات الجديدة    أحمد كريمة يحسم الجدل: "القايمة" ليست حرامًا.. والخطأ في تحويلها إلى سجن للزوج    فوائد شرب القرفة قبل النوم.. عادات بسيطة لصحة أفضل    متى يتناول الرضيع شوربة الخضار؟    تكريم ذوي الهمم بالصلعا في سوهاج.. مصحف ناطق و3 رحلات عمرة (صور)    حركة فتح ل"إكسترا نيوز": ندرك دور مصر المركزى فى المنطقة وليس فقط تجاه القضية الفلسطينية    أمين الفتوى يوضح أسباب إهمال الطفل للصلاة وسبل العلاج    الداخلية: مصرع عنصر إجرامي شديد الخطورة خلال مداهمة أمنية بالطالبية    الإفتاء توضح كفارة عدم القدرة على الوفاء بالنذر    الشيخ خالد الجندى: من يرحم زوجته أو زوجها فى الحر الشديد له أجر عظيم عند الله    الوطنية للصلب تحصل على موافقة لإقامة مشروع لإنتاج البيليت بطاقة 1.5 مليون طن سنويا    وزير الخارجية الفرنسي: منظومة مساعدات مؤسسة غزة الإنسانية مخزية    ممر شرفى لوداع لوكيل وزارة الصحة بالشرقية السابق    رئيس جامعة بنها يشهد المؤتمر الطلابي الثالث لكلية الطب البشرى    حملة «100 يوم صحة»: تقديم 23 مليونًا و504 آلاف خدمة طبية خلال 15 يوماً    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل برنامج التصميم الداخلي الإيكولوجي ب "فنون تطبيقية" حلوان    وزير الصحة يعلن تفاصيل زيادة تعويضات صندوق مخاطر المهن الطبية    طارق الشناوي: لطفي لبيب لم يكن مجرد ممثل موهوب بل إنسان وطني قاتل على الجبهة.. فيديو    أمانة الاتصال السياسي ب"المؤتمر" تتابع تصويت المصريين بالخارج في انتخابات الشيوخ    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 31-7-2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الغزالة‏(1)‏ مقاطع من رواية

في البصر والبصيرة (1)‏ علي رأس تله‏,‏ وأمام الأفق المنسرح‏,‏ كنا نجلس‏.‏ معلمي يتأمل وأنا أجتهد‏.‏ بعد برهة رأيته يلتفت نحوي ويقول‏:‏ تيقظ‏.‏ ولما كنت متيقظا بالفعل‏,‏ قلت‏.
أنا يقظ يامعلم‏.‏ قال‏:‏ عينك يقظي‏,‏ وقلبك يغط غطيط الساهين‏.‏
‏(2)‏
أدخلني معلمي كهفا تستدعي ظلمته نزع الرموش والأجفان
سألني‏:‏
هل تري؟
أجبته‏:‏
لا يامعلم‏.‏
قال‏:‏
فاخرج الي الشمس إذن وانعم بعماك‏.‏
‏(3)‏
من ظلمة الخارج برز الي مجلس معلمي مريد منهك وجثا أمامه وعفر وجهه بالتراب‏,‏ فأوقف معلمي الدرس وأقامه والتفت الي والي الحاضرين‏,‏ كأنما يشهدنا علي برهان ما كان يدرسه لنا‏,‏
وسأله‏:‏
ما بك؟
بوجه أسيف وصوت تصفر فيه الريح قال المريد‏:‏
ما عدت قادرا يامعلم علي تحمل مشاق ما كلفتني به من رياضة ومجاهدة‏.‏
فأقامه‏,‏ وبنظرة واحدة جمعنا‏,‏ ثم قال‏:‏
ابصروا يامن أنهكتكم الرياضة والمجاهدة الي هذا البائس المعني‏,‏ واعلموا أن التحمل يفوق الاجتهاد ويحتويه‏,‏ فبدون تحمل لا يكون اجتهاد‏,‏ وبدون اجتهاد لا تكون بصيرة‏.‏
‏(4)‏
استدار معلمي فجأة وهتف بي‏:‏
هل عميت؟‏..‏ تتبعني بعينين مفتوحتين؟‏!‏
مفزوعا أغلقت عيني‏,‏ وكانت عينا معلمي المفتوحتان علي أقصي اتساعهما آخر ما أبصرت‏.‏
قلت‏:‏
لكنك يامعلم تفتح عينيك علي أقصي اتساعهما‏.‏
فتركني ومضي مخلفا صوته‏:‏
كي يتقحمهما القذي فتقودني البصيرة وتقودك‏.‏
‏(5)‏
في الصحراء رحب بي معلمي وقال‏:‏
أني دخلت ففي بيتي متسع لك‏.‏
أجلت ناظري فيما أمامي فلم أبصر سوي الرمل والسماء
قال‏:‏
لو دققت لأبصرت المطبخ والسرير وبيت قضاء الحاجة ومصافي الضوء وملاقف الهواء ومزاريب المطر‏.‏
خشيت علي عقل معلمي فقلت‏:‏
لكن لا أسوار أمامي ولا جدر لا أبصر نوافذ أو أبواب أو ستر‏..‏ وما الحاجة الي مزاريب في صحراء لا طل فيها ولا مطر؟
قال‏:‏
لا يضاهي عيك سوي عماك‏..‏ اغم عينيك تبصر كل شيء
‏(6)‏
تحت سماء تنيرها النجوم اللوامع‏,‏ وفوق بطحاء لا تحرك سكونها ريح ولا يعكر هدوءها صوت‏,‏ ندت عني تنهيدة ارتياح ما كنت لأظن من فرط خفوتها إنها ستلفت انتباه معلمي‏,‏ لكنه التفت وقال بخفوت أشد‏:‏
لا تنظر الي الكون بغير عين النقص‏.‏
قلت بنفس النبرة‏:‏
لكن الأكتمال مبهر يامعلم؟
قال‏:‏
الاكتمال يوهن الهمة والنقص يثيرها‏.‏
‏(7)‏
في السوق قال لي معلمي من تلقاء نفسه
سأقول لك قولا قاله معلم في الأزمان الخوالي‏..‏ البصيرة كالبصر يجب غضها عن مساويء الناس‏.‏
‏(8)‏
من زقاق الي الجادة التي هممنا بمغادرتها خارج اثنان‏,‏ مبصر وكفيف‏.‏ كلاهما كان يخاصر الآخر فلا ندري أيهما يقود رفيقه‏.‏ تفادت أقدامهما عثرات الجادة وأوضارها‏,‏ قدم تنتقل بحذاء قدم‏.‏ ومن الدكاكين برزت عطايا الخيرين ومدت باتجاه الكفيف واستقرت في مخلاة المبصر‏.‏ لما مرا بنا لم أميز فيهما سوي العيون‏,‏ فعينا المبصر مفتوحتان وعينا الكفيف مسمولتان‏,‏ أما النعال والأسمال والملامح فواحدة‏,‏ جلد وقماش وإهاب‏.‏
بعد أن تجاوزانا اتخذت سمت العارف وقلت‏:‏
لا غني للضرير عن البصير‏.‏
فنظر الي معلمي‏,‏ تلك النظرة التي أتمني معها لو ساخت الأرض من تحتي وابتلعتني‏,‏ وأكملها بقوله‏:‏
مازلت أيها العيي بمنأي عن إشراقات أهل الطريقة بمسافات وفواصل‏.‏
لم أقدر علي مخاطبته بلساني فرجوته بعيني أن صحح لي ما زل به لساني‏,‏ فقال‏:‏
حاجات البصير موصولة بحاجات الضرير‏.‏
وفي البعيد أبصرت الاثنين وقد تماهيا في بعضيهما البعض لدرجة صعب علي معها فصل أيهما عن الآخر‏...‏
تمام اكتمال المرأة
‏(1)‏
مررنا علي جماعة من الرجال يتكلمون في المرأة‏,‏ فقال واحد‏:‏
المرأة قطة ناعمة الفراء حادة البراثن‏.‏
وقال ثان‏:‏
المرأة عصفورة جميلة الألوان عذبة التغريد‏.‏
وقال ثالث‏:‏
إنما هي بقرة ولود وحلوب‏.‏
وقال رابع‏:‏
بل هي خنزيرة شبقة لا تكف عن التقام الرمم‏.‏
ولما طال جدلهم‏,‏ واحتد الخلاف بينهم‏,‏ قال بعضهم‏:‏
نحتكم إلي هذين الغريبين‏.‏
فاتجهت الأبصار إلينا‏.‏
سألوني‏,‏ فأصابني العي‏,‏ فسألوا معلمي فإذا بي أري ملامحه ترق‏,‏ وإشراقة وجهه تزيد‏,‏ وببطء قال‏:‏
المرأة ليست قطة أو عصفورة‏,‏ ولا هي بقرة أو خنزيرة‏..‏
وبصوت غاية في الرقة قال‏:‏
المرأة أقحوانة‏:‏
فلكأنني شممت أعطر أريح ورأيت أنصع بياض في أقحوانة نبتت بيننا بغتة‏,‏ ومع أنني لا أعرف من الأقحوان غير اسمه‏,‏ ولا أعرف له رائحة أو لونا‏,‏ أقسم أنني رأيت في عيون الرجال أنهم رأوا مارأيته‏,‏ ومثلي بالآقحوانة انبهروا‏.‏
‏(2)‏
من غريب ماسمعته من معلمي‏:‏
المرأة والرجل كل منهما أسفنجة الآخر‏.‏
‏(3)‏
ولما كنت ومعلمي بالقرب من المنتزه الغاص بالأيك والمستروحين‏,‏ حفت بي امرأة وغمزتني بلحظها وأشارت برأسها بما أفهمني مرامها‏,‏ فخايلني بعض من زهو‏,‏ ربما لأنها تخيرتني دون معلمي‏,‏ وربما لأنها علي حظ وافر من الجمال الفتان‏,‏ كررت رنوها باتجاهي‏,‏ وحركت للحيظة إصبعا بنأمة استدعاء خفية فتلظي بدني وهفت إليها نفسي‏,‏ فالمرء لا يلقي بيسر امرأة سهلة المنال كهذه تطلب ولا تطلب‏.‏
استمهلت معلمي ورجوته أن يأذن لي ويتخير أيكة ريثما أعود‏,‏ ثم حثثت الخطو وراءها فاجتازت المنتزه والسوق وجاست وسط العمائر إلي أن توقفت أمام باب بيتها‏,‏ بعد ان أمسكت بقفله استدارت وواجهتني فتأهبت لمداعبة منها‏,‏ أو لفظة إغواء‏,‏ أو سرد لشروط‏,‏ أو طلب لسعر‏,‏ لكنها بأعلي صوت صرخت في المارة‏.‏
انقذوني من مخالب هذا الذئب‏.‏
وبأبشع ملامح راحت تزأر وتهيجهم علي‏.‏
بنظرة العارف تأمل معلمي مابي من رضوض ولهاث‏,‏ وهز رأسه وابتسم كأنما يقول ما توقعته حدث‏,‏ فقلت مبررا سوء حالي‏:‏
المرأة لغز‏.‏ فقال‏:‏
لكل لغز حل‏,‏ ولكل حل مفتاح‏,‏ ويا بؤس من فقد مفتاحه‏,‏ فقفل لغز المرأة‏,‏ يستعصي علي الكسر‏.‏
‏(4)‏
كنا في الصحراء‏,‏ وكان الصفاء يغمرنا‏,‏ ولم يكن بنا تعب أو لغب‏,‏ فجاءتنا سقسقة طبر فتتبعناها‏,‏ فإذا بنا أمام واحة ريانة في قلبها غدير‏.‏ رمناه فبهرنا بمرأي نسوة يغنين وقد كشفن عن سيقانهن وهن يملأن جرارهن‏,‏ وحولهن غزلان تمرح‏,‏ والطير فوق أفنان الدوح يصدح‏.‏
من فوره هرول معلمي الي الغدير فاتحا ذراعيه وأنا في أثره أفعل مثلما يفعل‏,‏ فإذا بالنسوة يصمتن ويختفين‏,‏ وإذا بماء الغدير يغور‏,‏ وبالواحة بما فيها من دوح وغزلان وطير تتلاشي‏.‏
غرزت عيني في صفرة الرمل أسفل قدمي وسألت معلمي‏:‏
أيعقل أن يكون كل ماخضناه سرابا في سراب ؟‏..‏ وإذا كان‏,‏ فكيف فاتك إدراك كونه سرابا ؟‏..‏ وكيف لاح لي وانقشع ما لاح لك وانقشع ؟
ولأنه كان مغمورا بالصفاء مازال فقد صعد تنهيدة أعرفها‏,‏ وسهم ببصره الي حيث لا أصل ولا أقدر‏,‏ ثم أجاب بما ظننته غير متصل بأسئلتي‏:‏
تمام الصفاء تحققه النساء
بعدها التفت إلي وابتسم‏:‏
في أول مدينة نذهب الي ماخور‏.‏
وبهمة استأنفنا المسير‏.‏
‏(5)‏
كان ظلام وهرج ومرج وتزاحم في الساحة التي دخلناه‏,‏ وجنود يضربون من يقبضون عليهم ويجرونهم جر السوائم‏.‏ وفي الأعلي أطل وجه حسناء كفلقة القمر من خلف شفوف مسدلة فوق نافذة نصف مفتوحة‏.‏
أحتذي معلمي الشعاع النحيل الهابط من جبين الوجه المطل من عل‏,‏ وصعد التنهيدة التي أعرفها عنه وقال‏:‏
المرأة انعتاق ومخاطرة‏.‏
وارتقي الشعاع‏,‏ وأنا وسط هرج ومرج الساحة مذهول‏.‏
‏(6)‏
عند حافة المدينة كانت امرأة تمشي داخلة إليها‏,‏ ومن خلقها قطار من الرجال‏,‏ ولاتني ترنو إليهم بين الفينة والفينة وهم راضون متنعمون‏,‏ فابتسمت إلا أن معلمي بدا غاية في الجد وهو يقول‏:‏
المرأة حادية الرجل‏.‏
‏(7)‏
سرني منظر امرأة حبلي تحتضن رضيعا وتتعلق بذراع رجل‏,‏ وعلي شفتيها استراحت ابتسامة رضا وانبساط حال‏.‏ ظننت أنني من دون معلمي قد أستأثرت بما رأيت‏,‏ غير أنه فاجأني بتعليق بهرني‏.‏ قال‏:‏
تقول المرأة حين تحب وتنجب‏:‏ الآن تم اكتمالي
في الحب والصبابة
‏(1)‏
لمعلمي صبوات تستعصي علي الحصر‏.‏ منها مالم أعشها معه‏,‏ ومنها ماوقفت علي أدق دقائقها‏.‏ كثيرات هن من صبا إليهن ونال منهن وطره‏.‏ معهن يقر ويهدأ‏,‏ وإذا ماأقبل علي اعطائي من ذوب حكمته الكثير‏.‏ وعلي قلة من قابلن صبابته بالصد‏,‏ فقد أوجدته‏,‏ ولو عنه‏,‏ وأدخلنه في حالات من الشجن والتتيم ماعهدته منه إلا معهن‏.‏ ومنهن من جعلنه يهيم هيام المدلة الولة‏,‏ وأفقدنه بعضا من رشده أو رشده كله‏.‏ وكم روعتني الأحوال التي يكون عليها إذ ذاك‏.‏
كادت نفسي تذهب شعاعا ذات مرة من فرط ماأتاه من أفعال لا يأتيها إلا من به جنة‏,‏ فقد ضرب رأسه في حوائط البيوت‏,‏ ودقها بأحجار الطريق‏,‏ ومزق الخرقة عن صدره‏,‏ ولولا أنني منعته لشق صدره بسكين ألتقطها من سنان ليخرج قلبه ويقدمه للمحبوبة الواقفة في الشرفة تنظر إليه ولا تتكلم‏.‏
بعد أن أفاق قلت له‏:‏
يامعلم‏..‏ الحب يؤذيك ويروعني‏,‏ فأمتنع عنه مادامت هذه عواقبه‏.‏
عندئذ شخص ببصره إلي البعيد وقال‏:‏
أن تعيش يعني أن تحب‏,‏ وكما أنه لا عيش بدون جهد ومشقة‏,‏ فكذلك لا حب بدون أذي ومضرة‏,‏ وإذا كان العائش يستسيغ جهد العيش ومشقته‏,‏ فإن المحب عما يلاقيه عمي‏.‏
فأطبقت فمي لأنني فهمت أنه إنما يعلمني أنني لست بعائش‏.‏
‏(2)‏
بين النساء الرائحات والغاديات سألني معلمي‏:‏
أحببت ؟
أجبت‏:‏
أحاول‏.‏
قال‏:‏
حاول‏,‏ وإلا هلكت‏.‏
وسأل من سمع حوارنا‏:‏
أحببت ؟
أجاب‏:‏
فوق الحصر‏.‏
قال‏:‏
ما أحببت‏.‏
‏(3)‏
جاءوا إلي معلمي بثلاثة ممن أضناهم الوجد وشفهم الجوي وقالوا‏:‏ لكل منهم محبوبة من النساء غابت عنه أو غاب عنها وندم‏,‏ فعنف الأول وطفق يوبخه‏:‏
يا غوي‏..‏ أما علمت أن القلوب لتصدأ مثلما يصدأ الحديد ؟‏..‏ لا تقعدن عن محبوبتك ولا تكسلن عنها‏.‏ اسع إليها‏.‏ اطو من أجلها الوهاد وجز الفجاج وارتق الذري‏.‏ جد في البحث عنها فلعلك واجدها‏.‏ اشحذ همتك إليها فلعلك ملاقيها‏..‏ لكن أني لك هذا إن لم يك بين حناياك قلب مجلو من كل صدأ‏..‏ قلب حرقه الشوق وصقلته المحبة‏.‏
وخفف من لهجته وهو يخاطب الثاني‏:‏
صل محبوبتك في كل وقت‏.‏ لذ بها وحث الخطو في إثرها‏.‏ لا تكل نفسك لنفسك لحظة‏,‏ لئلا تتلهي عنها بما فيك فتضيع منك المحبوبة وتضيع‏.‏
ورقق من حديثه مع الثالث حتي لكأنه يناجيه‏:‏
أيها المحب ترفق‏,‏ فللحب سلم ودرج‏,‏ لا تصعدنه وثبا فتنزلق بك قدماك وتغيب المحبوبة عن عينيك‏.‏ خذ إليها ضوءك‏,‏ وأوقد من أجله شموع روحك‏.‏ أنشدها مزامير حبك‏,‏ ثم اصعد إليها خطوة فخطوة‏..‏ درجة فدرجة‏..‏ فإذا بها أمام الباب ومن أجلك تفتحه‏,‏ وإذا بك تواجهها بعدما هداك الضوء وهدهدتها موسيقاك‏.‏ ولفرط فرحتك آنذاك‏..‏ أرجوك ألا تنسني‏.‏
ثم صرفهم ومن معهم وطفق يردد لنفسه‏:‏
النساء‏..‏ النساء‏..‏ النساء‏..‏ النساء‏.‏
‏(4)‏
اقتربت منه بعد واحدة من صبواته المتحققة‏.‏ ولما كان في أملح هيئة رأيته عليها‏,‏ خاطبته‏:‏
يا معلم‏..‏ خبرني عن العشق‏.‏
فقال بأرخم صوت وأعذب نبرة‏:‏
العشق حال يضم كل الأحوال‏.‏
وفرد ذراعيه بامتداد كتفيه وأخذ يدور حول نفسه ويلف‏,‏ يدور ويلف‏,‏ يدور‏...‏
‏(5)‏
طاف معلمي بشوارع وحارات وأزقة المدينة مشعثا مغبرا يبحث عن إحدي معذباته‏,‏ وكنت أمشي خلفه‏,‏ أتبعه أراه ولا يراني‏,‏ فالتقته امرأة عابرة فاستوقفته وقالت له‏:‏
إن كانت بك غلمة جعلت من جسدي مطفأة لها‏.‏ وإن كنت قد كلفت بمن أوجدتك لخلة فيها أخبرني بها لأصطنعها لك‏.‏ وإن كانت برنوة لحظ أو بسمة ثغر قد سبتك فبين شفتي ورموش عيني مفاتيح حريتك‏.‏
لسخاء وبلاغة هذه المرأة لسانا وجسدا توقعت من معلمي أن يرد عليها ويستجيب‏,‏ لكنه نظر إليها نظرة المغيب‏,‏ وحاد عنها وتخطاها واستمر يطوف بشوارع وحارات وأزقة المدينة‏,‏ وأنا أتبعه حتي أصابني الكلال وتمنيت لو أعلنت له عن وجودي وأوقفته‏.‏
‏(6)‏
بعد أن قضي معلمي وطرا‏,‏ قال لي وكان منبسط النفس منكشف السريرة‏:‏
تعال أعلمك من الحب أشياء‏..‏ الحب محطة تسبقها محطات‏,‏ وتليها محطات‏,‏ فلن تصل إلي الحب من غير هوي وشوق وحنين‏,‏ فإن وصلت فبعده الألفة والشغف والغرام‏,‏ فإن أفرطت في الحب فأنت عاشق‏,‏ وإن آلمك الهجر فأنت متيم‏,‏ وإن كاد يسلب منك عقلك فأنت هائم‏,‏ فإن استلبه كله فأنت ولا تتحسر علي نفسك مجنون‏.‏
وابتسم ابتسامة الخبير‏:‏
وللحب أحوال وما أكثرها أيها البائس‏,‏ من الولع‏,‏ وأنت مولع مادام تعلقك بالمحبوب شديدا‏,‏ فإن اقترن ولعلك بالهم والكرب فهو الشجن قد آتاك‏,‏ وإن استنبت الشجن ألما تنشأ اللوعة‏,‏ ومع شدائد الشوق تظهر التباريح‏,‏ فإن صاحب الحب كتمان حتي ضاق الصدر به فهو الجوي‏,‏ ومع الحزن العميق قد يتحول الجوي إلي كمد‏,‏ فإن انفعلت بحزنك فهو الوجد‏,‏ فإن تسبب الوجد في شدة التحير فأنت وله‏,‏ فإن أغرقك الوله فقد بت كلفا‏.‏
ثم قهقه حتي بانت نواجذه‏:‏
‏..‏ ومع هذا قد يصل الحب بالمحب إلي الجنون دون أن يقف في أي محطة‏,‏ وقد يصير كلفا بغير رؤية منه للمحبوب‏.‏
‏(7)‏
قلت لمعلمي‏:‏
مادامت سفرة الحب مبدوءة بالهوي‏,‏ فهذا أدعي لعدم القيام بها أو الرجوع عنها‏,‏ فالهوي سقوط‏..‏ وما سمي الهوي هوي كما أخبر من خبروه إلا أنه يهوي بصاحبه في المهالك‏.‏ وكما تعلم يا معلم قيل الهوي هوان‏.‏
فاعترت معلمي غمامة كتلك التي تعتريه عندما يكتشف غباء أحد تلاميذه‏,‏ لكنه أزاحها بجهد بانت أماراته عليه‏,‏ ثم شهق شهقة بالغة العمق حتي خلتني سأنحشر في إحدي طاقتي أنفه‏.‏ لما زفر ما شهقه وقر قال‏:‏
إنما الهوي هوا‏,‏ فهل أنت بمستغن عن الهوا ؟
‏(8)‏
كالطيف المنير مرت هيفاء من أمام معلمي فتدله بها ودنف‏.‏ ولما لم يجد منها إلا الصدود فقد أوجد حتي شف‏,‏ وأدخله هواه في أحوال غير الأحوال‏,‏ وأتي بأفعال لا يأتيها عاقل‏,‏ فلما أفاق استأذنته لأفاتحه فيما يقلقني منه كلما دهمته حالة حب‏,‏ فلما أذن لي قلت‏:‏
يخيل لي يا معلم أنك تكون ذاهب العقل حين تحب‏.‏
فابتسم مكدودا متعبا وقال‏:‏
بالحب لا نعقل‏,‏ وبالعقل لا نحب‏.‏
ولم أعرف لماذا أحسست وقتها أنه إنما يمزح‏,‏ علي الرغم من أنني أكاد أوقن أن صد أي محبوب له يقربه بالحتم من حافة الجنون‏.‏
‏(9)‏
خرج معلمي من إحدي غرامياته مجهدا مضعضعا‏,‏ لا ذاق رضابا ولا طعم شهدا‏.‏ ومن فرط ما تأجج حم وما عاد بقادر علي الإتيان بما كان يقدر عليه‏,‏ فكان حريا بي وحاله هكذا أن أعمل علي تطبيبه وتوفير الأوقات والظروف التي تكفل راحته واسترداده لعافيته‏,‏ وأن أمنع عنه تلاميذه وزواره‏,‏ وهذا ما فعلته‏,‏ فلما برئ مما أصابه واستعاد أزمة بيانه‏,‏ احتشد حول شعب كثيف من الولهي المكتوين بنيران الجوي يواسونه ويواسون أنفسهم‏.‏
قال أحدهم‏:‏
هكذا هو حال المحبين يا معلم‏..‏ يأس وعذاب وحسرة‏.‏
وقال آخر‏:‏
لا يخلع الحب علي أبداننا سوي كسوة الذل والهوان‏.‏
وتبعه آخر‏:‏
سياط الحب لاسعة‏,‏ وسهامه قاتلة‏.‏
وإذ يهم غيرهم باستكمال التوجع‏,‏ الذي يظنونه مواساة‏,‏ أوقفهم معلمي ببسطة كف ثم قال‏:‏
أيها الموجودون الولهي‏..‏ لا تفتئتوا علي الحب بالباطل‏,‏ فما أمسك الحب سوطا وما رمي سهما‏,‏ وما أورثنا اليأس والعذاب والحسرة‏,‏ وما أذلنا أو ألقي بنا إلي هوة الهوان‏,‏ فكل ما منه تشتكون من صنع المحبوب القاسي‏.‏ وهو قاس لأنه مثلكم‏,‏ من نفس طينتكم جبل‏,‏ وعلي ذات أرضكم عاش‏.‏
ثم نهض ورنا إلي البعيد واتخذ سمته حينما يهم بقول يريده أن يثبت في آذان سامعيه‏,‏ ثم قال وقد أشرق محياه‏:‏
‏..‏ الحب كالمطر يهمي علي الصحراء فيربيها‏,‏ وعلي الجلمد فيرعشه‏,‏ وعلي الميت فيحييه‏,‏ لا يلومن أحدكم محبوبه وإن أذاقه ما يظنه مر العذاب‏.‏ أحبوا محبوبيكم وإن هجروكم‏.‏ أحبوهم لأنه لابد لكم أن تحبوا‏.‏ أحبوهم ولا تكونوا عبيدا لهم‏.‏ لا تسلموهم معاصمكم فتندموا‏,‏ لأن الحب انطلاق‏.‏ ارفلوا فيما تظنونه عذابا‏,‏ ولو تعلمون هو النعيم المستحيل‏,‏ ارفلوا فيه وتنعموا تنعم المحبين الأحرار‏.‏ أيها الموجودون الولهي‏..‏ ما دمتم قد ذقتم حلاوة الحب فأحبوا‏,‏ وإلا ما استحققتم أن تكونوا محبين‏.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.