محافظ سوهاج يقرر خفض تنسيق القبول بالثانوي العام إلى 233 درجة    ترامب: عودة الرهائن من غزة لن تحدث إلا بتدمير «حماس» ( تحليل إخباري )    نيابة عن رئيس الجمهورية: رئيس الوزراء يتوجه إلى اليابان للمشاركة في قمة "تيكاد 9"    فيديو| اندلاع حريق في ترام الرمل بالإسكندرية نتيجة ماس كهربائي.. وإخلاء الركاب    بدءاً من شهر سبتمبر.. برنامج "باب الخلق" على قناة النهار والتليفزيون المصري    إيهاب توفيق وفرقة كنعان الفلسطينية يضيئون ليالي مهرجان القلعة الدولي للموسيقى والغناء    تعليم الوادي يعلن مواعيد المقابلات الشخصية للمتقدمين لشغل الوظائف القيادية    محافظ الوادي الجديد يتفقد تقدم أعمال إنشاء مدرسة المتفوقين STEM    الخارجية الفلسطينية تدين قرار الاحتلال الإسرائيلي التعسفي بحق الدبلوماسيين الأستراليين    إبراهيم نور الدين عن التحكيم هذا الموسم: بلاش اقول احساسي عشان هيبقي " محبط "    برشلونة يرفض ضم نجم إنتر ميلان    تعديل موعد انطلاق بطولة أفريقيا لأندية كرة اليد بالمغرب    أسعار سبائك الذهب اليوم الاثنين 18 أغسطس 2025.. بكام سبيكة 2.5 جرام؟    كيف بدأت مطاردة فتيات طريق الواحات؟.. أقوال ضابط المباحث تكشف التفاصيل| خاص    قرار جمهوري بمد فترة حسن عبد الله محافظًا للبنك المركزي لعام جديد    نص القرار الجمهورى بالتجديد ل"حسن عبد الله" محافظًا للبنك المركزى    يتضمن 20 أغنية.. التفاصيل الكاملة لألبوم هيفاء وهبي الجديد    أسامة السعيد: الموقف المصرى تجاه القضة الفلسطينية راسخ ورفض للتهجير    «أحمديات»: غياب ضمير العشرة    وكيل صحة الإسماعيلية تتفقد دار إيواء المستقبل (صور)    كشف ملابسات قيام سائق "توك توك" بالسير عكس الإتجاه بالإسكندرية    إصلاحات شاملة لطريق مصر - أسوان الزراعي الشرقي في إسنا    تمكين الشباب.. رئيس جامعة بنها يشهد فعاليات المبادرة الرئاسية «كن مستعدا»    تعرف على الفيلم الأضعف في شباك تذاكر السينما الأحد (تفاصيل)    الأعلى للإعلام: انطلاق الدورة التدريبية رقم 61 للصحفيين الأفارقة من 18 دولة    «بيطري قناة السويس» تُطلق برامج دراسات عليا جديدة وتفتح باب التسجيل    هل المولد النبوي الشريف عطلة رسمية في السعودية؟    البحوث الفلكية : غرة شهر ربيع الأول 1447ه فلكياً الأحد 24 أغسطس    الرقابة المالية: 3.5 مليون مستفيد من تمويل المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر حتى يونيو 2025    هل يتم تعديل مواعيد العمل الرسمية من 5 فجرًا إلى 12 ظهرًا ؟.. اقتراح جديد في البرلمان    تحذير رسمي.. عبوات «مجهولة» من «Mounjaro 30» للتخسيس تهدد صحة المستهلكين (تفاصيل)    حبس المتهمين بالتخلص من جثة صديقهم أثناء التنقيب عن الآثار في الشرقية    الليلة.. عروض فنية متنوعة ضمن ملتقى السمسمية بالإسماعيلية    هام وعاجل من التعليم قبل بدء الدراسة: توجيهات للمديريات    "العدل": على دول العالم دعم الموقف المصري الرافض لتهجير الفلسطينيين من أرضهم    الصحة العالمية تقدم أهم النصائح لحمايتك والاحتفاظ ببرودة جسمك في الحر    "بعد أزمته الأخيرة مع الأهلي".. 10 معلومات عن الحكم محمد معروف (صور)    "كان واقف على الباب".. مصرع شاب سقط من قطار الصعيد بسوهاج    القوات الإسرائيلية تعتقل 33 عاملاً فلسطينيا جنوب القدس    الشيخ خالد الجندي: مخالفة قواعد المرور معصية شرعًا و"العمامة" شرف الأمة    اليوم.. الأهلي يتسلم الدفعة الأولى من قيمة صفقة وسام أبو علي    الديهي يكشف تفاصيل اختراقه ل"جروب الإخوان السري" فيديو    موقع واللا الإسرائيلي: كاتس سينظر خطة لمشاركة 80 ألف جندي في احتلال غزة    الرئيس السيسي يوجه بتعزيز الموارد الدولارية وتمكين القطاع الخاص لجذب الاستثمارات ودعم النمو الاقتصادي    رضا عبدالعال: خوان ألفينا سيعوض زيزو في الزمالك.. وبنتايج مستواه ضعيف    أيمن الرمادي ينتقد دونجا ويطالب بإبعاده عن التشكيل الأساسي للزمالك    في يومها الثالث.. انتظام امتحانات الدور الثانى للثانوية العامة بالغربية    حظك اليوم.. تعرف على توقعات الأبراج اليوم الاثنين    أسعار البيض اليوم الإثنين 18 أغسطس في عدد من المزارع المحلية    «متحدث الصحة» ينفي سرقة الأعضاء: «مجرد أساطير بلا أساس علمي»    مدرب نانت: مصطفى محمد يستحق اللعب بجدارة    انطلاق امتحانات الدور الثاني للشهادة الثانوية الأزهرية بشمال سيناء (صور)    قوات الاحتلال تعتقل 12 فلسطينيا من محافظة بيت لحم    وزارة التعليم: قبول تحويل الطلاب من المعاهد الأزهرية بشرط مناظرة السن    إصابة 14 شخصا فى تصادم ميكروباص وربع نقل على طريق أسوان الصحراوى    الخارجية الفلسطينية ترحب بقرار أستراليا منع عضو بالكنيست من دخول أراضيها 3 سنوات    استقرار أسعار النفط مع انحسار المخاوف بشأن الإمدادات الروسية    سامح حسين يعلن وفاة نجل شقيقه عن عمر 4 سنوات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الغزالة‏(1)‏ مقاطع من رواية

في البصر والبصيرة (1)‏ علي رأس تله‏,‏ وأمام الأفق المنسرح‏,‏ كنا نجلس‏.‏ معلمي يتأمل وأنا أجتهد‏.‏ بعد برهة رأيته يلتفت نحوي ويقول‏:‏ تيقظ‏.‏ ولما كنت متيقظا بالفعل‏,‏ قلت‏.
أنا يقظ يامعلم‏.‏ قال‏:‏ عينك يقظي‏,‏ وقلبك يغط غطيط الساهين‏.‏
‏(2)‏
أدخلني معلمي كهفا تستدعي ظلمته نزع الرموش والأجفان
سألني‏:‏
هل تري؟
أجبته‏:‏
لا يامعلم‏.‏
قال‏:‏
فاخرج الي الشمس إذن وانعم بعماك‏.‏
‏(3)‏
من ظلمة الخارج برز الي مجلس معلمي مريد منهك وجثا أمامه وعفر وجهه بالتراب‏,‏ فأوقف معلمي الدرس وأقامه والتفت الي والي الحاضرين‏,‏ كأنما يشهدنا علي برهان ما كان يدرسه لنا‏,‏
وسأله‏:‏
ما بك؟
بوجه أسيف وصوت تصفر فيه الريح قال المريد‏:‏
ما عدت قادرا يامعلم علي تحمل مشاق ما كلفتني به من رياضة ومجاهدة‏.‏
فأقامه‏,‏ وبنظرة واحدة جمعنا‏,‏ ثم قال‏:‏
ابصروا يامن أنهكتكم الرياضة والمجاهدة الي هذا البائس المعني‏,‏ واعلموا أن التحمل يفوق الاجتهاد ويحتويه‏,‏ فبدون تحمل لا يكون اجتهاد‏,‏ وبدون اجتهاد لا تكون بصيرة‏.‏
‏(4)‏
استدار معلمي فجأة وهتف بي‏:‏
هل عميت؟‏..‏ تتبعني بعينين مفتوحتين؟‏!‏
مفزوعا أغلقت عيني‏,‏ وكانت عينا معلمي المفتوحتان علي أقصي اتساعهما آخر ما أبصرت‏.‏
قلت‏:‏
لكنك يامعلم تفتح عينيك علي أقصي اتساعهما‏.‏
فتركني ومضي مخلفا صوته‏:‏
كي يتقحمهما القذي فتقودني البصيرة وتقودك‏.‏
‏(5)‏
في الصحراء رحب بي معلمي وقال‏:‏
أني دخلت ففي بيتي متسع لك‏.‏
أجلت ناظري فيما أمامي فلم أبصر سوي الرمل والسماء
قال‏:‏
لو دققت لأبصرت المطبخ والسرير وبيت قضاء الحاجة ومصافي الضوء وملاقف الهواء ومزاريب المطر‏.‏
خشيت علي عقل معلمي فقلت‏:‏
لكن لا أسوار أمامي ولا جدر لا أبصر نوافذ أو أبواب أو ستر‏..‏ وما الحاجة الي مزاريب في صحراء لا طل فيها ولا مطر؟
قال‏:‏
لا يضاهي عيك سوي عماك‏..‏ اغم عينيك تبصر كل شيء
‏(6)‏
تحت سماء تنيرها النجوم اللوامع‏,‏ وفوق بطحاء لا تحرك سكونها ريح ولا يعكر هدوءها صوت‏,‏ ندت عني تنهيدة ارتياح ما كنت لأظن من فرط خفوتها إنها ستلفت انتباه معلمي‏,‏ لكنه التفت وقال بخفوت أشد‏:‏
لا تنظر الي الكون بغير عين النقص‏.‏
قلت بنفس النبرة‏:‏
لكن الأكتمال مبهر يامعلم؟
قال‏:‏
الاكتمال يوهن الهمة والنقص يثيرها‏.‏
‏(7)‏
في السوق قال لي معلمي من تلقاء نفسه
سأقول لك قولا قاله معلم في الأزمان الخوالي‏..‏ البصيرة كالبصر يجب غضها عن مساويء الناس‏.‏
‏(8)‏
من زقاق الي الجادة التي هممنا بمغادرتها خارج اثنان‏,‏ مبصر وكفيف‏.‏ كلاهما كان يخاصر الآخر فلا ندري أيهما يقود رفيقه‏.‏ تفادت أقدامهما عثرات الجادة وأوضارها‏,‏ قدم تنتقل بحذاء قدم‏.‏ ومن الدكاكين برزت عطايا الخيرين ومدت باتجاه الكفيف واستقرت في مخلاة المبصر‏.‏ لما مرا بنا لم أميز فيهما سوي العيون‏,‏ فعينا المبصر مفتوحتان وعينا الكفيف مسمولتان‏,‏ أما النعال والأسمال والملامح فواحدة‏,‏ جلد وقماش وإهاب‏.‏
بعد أن تجاوزانا اتخذت سمت العارف وقلت‏:‏
لا غني للضرير عن البصير‏.‏
فنظر الي معلمي‏,‏ تلك النظرة التي أتمني معها لو ساخت الأرض من تحتي وابتلعتني‏,‏ وأكملها بقوله‏:‏
مازلت أيها العيي بمنأي عن إشراقات أهل الطريقة بمسافات وفواصل‏.‏
لم أقدر علي مخاطبته بلساني فرجوته بعيني أن صحح لي ما زل به لساني‏,‏ فقال‏:‏
حاجات البصير موصولة بحاجات الضرير‏.‏
وفي البعيد أبصرت الاثنين وقد تماهيا في بعضيهما البعض لدرجة صعب علي معها فصل أيهما عن الآخر‏...‏
تمام اكتمال المرأة
‏(1)‏
مررنا علي جماعة من الرجال يتكلمون في المرأة‏,‏ فقال واحد‏:‏
المرأة قطة ناعمة الفراء حادة البراثن‏.‏
وقال ثان‏:‏
المرأة عصفورة جميلة الألوان عذبة التغريد‏.‏
وقال ثالث‏:‏
إنما هي بقرة ولود وحلوب‏.‏
وقال رابع‏:‏
بل هي خنزيرة شبقة لا تكف عن التقام الرمم‏.‏
ولما طال جدلهم‏,‏ واحتد الخلاف بينهم‏,‏ قال بعضهم‏:‏
نحتكم إلي هذين الغريبين‏.‏
فاتجهت الأبصار إلينا‏.‏
سألوني‏,‏ فأصابني العي‏,‏ فسألوا معلمي فإذا بي أري ملامحه ترق‏,‏ وإشراقة وجهه تزيد‏,‏ وببطء قال‏:‏
المرأة ليست قطة أو عصفورة‏,‏ ولا هي بقرة أو خنزيرة‏..‏
وبصوت غاية في الرقة قال‏:‏
المرأة أقحوانة‏:‏
فلكأنني شممت أعطر أريح ورأيت أنصع بياض في أقحوانة نبتت بيننا بغتة‏,‏ ومع أنني لا أعرف من الأقحوان غير اسمه‏,‏ ولا أعرف له رائحة أو لونا‏,‏ أقسم أنني رأيت في عيون الرجال أنهم رأوا مارأيته‏,‏ ومثلي بالآقحوانة انبهروا‏.‏
‏(2)‏
من غريب ماسمعته من معلمي‏:‏
المرأة والرجل كل منهما أسفنجة الآخر‏.‏
‏(3)‏
ولما كنت ومعلمي بالقرب من المنتزه الغاص بالأيك والمستروحين‏,‏ حفت بي امرأة وغمزتني بلحظها وأشارت برأسها بما أفهمني مرامها‏,‏ فخايلني بعض من زهو‏,‏ ربما لأنها تخيرتني دون معلمي‏,‏ وربما لأنها علي حظ وافر من الجمال الفتان‏,‏ كررت رنوها باتجاهي‏,‏ وحركت للحيظة إصبعا بنأمة استدعاء خفية فتلظي بدني وهفت إليها نفسي‏,‏ فالمرء لا يلقي بيسر امرأة سهلة المنال كهذه تطلب ولا تطلب‏.‏
استمهلت معلمي ورجوته أن يأذن لي ويتخير أيكة ريثما أعود‏,‏ ثم حثثت الخطو وراءها فاجتازت المنتزه والسوق وجاست وسط العمائر إلي أن توقفت أمام باب بيتها‏,‏ بعد ان أمسكت بقفله استدارت وواجهتني فتأهبت لمداعبة منها‏,‏ أو لفظة إغواء‏,‏ أو سرد لشروط‏,‏ أو طلب لسعر‏,‏ لكنها بأعلي صوت صرخت في المارة‏.‏
انقذوني من مخالب هذا الذئب‏.‏
وبأبشع ملامح راحت تزأر وتهيجهم علي‏.‏
بنظرة العارف تأمل معلمي مابي من رضوض ولهاث‏,‏ وهز رأسه وابتسم كأنما يقول ما توقعته حدث‏,‏ فقلت مبررا سوء حالي‏:‏
المرأة لغز‏.‏ فقال‏:‏
لكل لغز حل‏,‏ ولكل حل مفتاح‏,‏ ويا بؤس من فقد مفتاحه‏,‏ فقفل لغز المرأة‏,‏ يستعصي علي الكسر‏.‏
‏(4)‏
كنا في الصحراء‏,‏ وكان الصفاء يغمرنا‏,‏ ولم يكن بنا تعب أو لغب‏,‏ فجاءتنا سقسقة طبر فتتبعناها‏,‏ فإذا بنا أمام واحة ريانة في قلبها غدير‏.‏ رمناه فبهرنا بمرأي نسوة يغنين وقد كشفن عن سيقانهن وهن يملأن جرارهن‏,‏ وحولهن غزلان تمرح‏,‏ والطير فوق أفنان الدوح يصدح‏.‏
من فوره هرول معلمي الي الغدير فاتحا ذراعيه وأنا في أثره أفعل مثلما يفعل‏,‏ فإذا بالنسوة يصمتن ويختفين‏,‏ وإذا بماء الغدير يغور‏,‏ وبالواحة بما فيها من دوح وغزلان وطير تتلاشي‏.‏
غرزت عيني في صفرة الرمل أسفل قدمي وسألت معلمي‏:‏
أيعقل أن يكون كل ماخضناه سرابا في سراب ؟‏..‏ وإذا كان‏,‏ فكيف فاتك إدراك كونه سرابا ؟‏..‏ وكيف لاح لي وانقشع ما لاح لك وانقشع ؟
ولأنه كان مغمورا بالصفاء مازال فقد صعد تنهيدة أعرفها‏,‏ وسهم ببصره الي حيث لا أصل ولا أقدر‏,‏ ثم أجاب بما ظننته غير متصل بأسئلتي‏:‏
تمام الصفاء تحققه النساء
بعدها التفت إلي وابتسم‏:‏
في أول مدينة نذهب الي ماخور‏.‏
وبهمة استأنفنا المسير‏.‏
‏(5)‏
كان ظلام وهرج ومرج وتزاحم في الساحة التي دخلناه‏,‏ وجنود يضربون من يقبضون عليهم ويجرونهم جر السوائم‏.‏ وفي الأعلي أطل وجه حسناء كفلقة القمر من خلف شفوف مسدلة فوق نافذة نصف مفتوحة‏.‏
أحتذي معلمي الشعاع النحيل الهابط من جبين الوجه المطل من عل‏,‏ وصعد التنهيدة التي أعرفها عنه وقال‏:‏
المرأة انعتاق ومخاطرة‏.‏
وارتقي الشعاع‏,‏ وأنا وسط هرج ومرج الساحة مذهول‏.‏
‏(6)‏
عند حافة المدينة كانت امرأة تمشي داخلة إليها‏,‏ ومن خلقها قطار من الرجال‏,‏ ولاتني ترنو إليهم بين الفينة والفينة وهم راضون متنعمون‏,‏ فابتسمت إلا أن معلمي بدا غاية في الجد وهو يقول‏:‏
المرأة حادية الرجل‏.‏
‏(7)‏
سرني منظر امرأة حبلي تحتضن رضيعا وتتعلق بذراع رجل‏,‏ وعلي شفتيها استراحت ابتسامة رضا وانبساط حال‏.‏ ظننت أنني من دون معلمي قد أستأثرت بما رأيت‏,‏ غير أنه فاجأني بتعليق بهرني‏.‏ قال‏:‏
تقول المرأة حين تحب وتنجب‏:‏ الآن تم اكتمالي
في الحب والصبابة
‏(1)‏
لمعلمي صبوات تستعصي علي الحصر‏.‏ منها مالم أعشها معه‏,‏ ومنها ماوقفت علي أدق دقائقها‏.‏ كثيرات هن من صبا إليهن ونال منهن وطره‏.‏ معهن يقر ويهدأ‏,‏ وإذا ماأقبل علي اعطائي من ذوب حكمته الكثير‏.‏ وعلي قلة من قابلن صبابته بالصد‏,‏ فقد أوجدته‏,‏ ولو عنه‏,‏ وأدخلنه في حالات من الشجن والتتيم ماعهدته منه إلا معهن‏.‏ ومنهن من جعلنه يهيم هيام المدلة الولة‏,‏ وأفقدنه بعضا من رشده أو رشده كله‏.‏ وكم روعتني الأحوال التي يكون عليها إذ ذاك‏.‏
كادت نفسي تذهب شعاعا ذات مرة من فرط ماأتاه من أفعال لا يأتيها إلا من به جنة‏,‏ فقد ضرب رأسه في حوائط البيوت‏,‏ ودقها بأحجار الطريق‏,‏ ومزق الخرقة عن صدره‏,‏ ولولا أنني منعته لشق صدره بسكين ألتقطها من سنان ليخرج قلبه ويقدمه للمحبوبة الواقفة في الشرفة تنظر إليه ولا تتكلم‏.‏
بعد أن أفاق قلت له‏:‏
يامعلم‏..‏ الحب يؤذيك ويروعني‏,‏ فأمتنع عنه مادامت هذه عواقبه‏.‏
عندئذ شخص ببصره إلي البعيد وقال‏:‏
أن تعيش يعني أن تحب‏,‏ وكما أنه لا عيش بدون جهد ومشقة‏,‏ فكذلك لا حب بدون أذي ومضرة‏,‏ وإذا كان العائش يستسيغ جهد العيش ومشقته‏,‏ فإن المحب عما يلاقيه عمي‏.‏
فأطبقت فمي لأنني فهمت أنه إنما يعلمني أنني لست بعائش‏.‏
‏(2)‏
بين النساء الرائحات والغاديات سألني معلمي‏:‏
أحببت ؟
أجبت‏:‏
أحاول‏.‏
قال‏:‏
حاول‏,‏ وإلا هلكت‏.‏
وسأل من سمع حوارنا‏:‏
أحببت ؟
أجاب‏:‏
فوق الحصر‏.‏
قال‏:‏
ما أحببت‏.‏
‏(3)‏
جاءوا إلي معلمي بثلاثة ممن أضناهم الوجد وشفهم الجوي وقالوا‏:‏ لكل منهم محبوبة من النساء غابت عنه أو غاب عنها وندم‏,‏ فعنف الأول وطفق يوبخه‏:‏
يا غوي‏..‏ أما علمت أن القلوب لتصدأ مثلما يصدأ الحديد ؟‏..‏ لا تقعدن عن محبوبتك ولا تكسلن عنها‏.‏ اسع إليها‏.‏ اطو من أجلها الوهاد وجز الفجاج وارتق الذري‏.‏ جد في البحث عنها فلعلك واجدها‏.‏ اشحذ همتك إليها فلعلك ملاقيها‏..‏ لكن أني لك هذا إن لم يك بين حناياك قلب مجلو من كل صدأ‏..‏ قلب حرقه الشوق وصقلته المحبة‏.‏
وخفف من لهجته وهو يخاطب الثاني‏:‏
صل محبوبتك في كل وقت‏.‏ لذ بها وحث الخطو في إثرها‏.‏ لا تكل نفسك لنفسك لحظة‏,‏ لئلا تتلهي عنها بما فيك فتضيع منك المحبوبة وتضيع‏.‏
ورقق من حديثه مع الثالث حتي لكأنه يناجيه‏:‏
أيها المحب ترفق‏,‏ فللحب سلم ودرج‏,‏ لا تصعدنه وثبا فتنزلق بك قدماك وتغيب المحبوبة عن عينيك‏.‏ خذ إليها ضوءك‏,‏ وأوقد من أجله شموع روحك‏.‏ أنشدها مزامير حبك‏,‏ ثم اصعد إليها خطوة فخطوة‏..‏ درجة فدرجة‏..‏ فإذا بها أمام الباب ومن أجلك تفتحه‏,‏ وإذا بك تواجهها بعدما هداك الضوء وهدهدتها موسيقاك‏.‏ ولفرط فرحتك آنذاك‏..‏ أرجوك ألا تنسني‏.‏
ثم صرفهم ومن معهم وطفق يردد لنفسه‏:‏
النساء‏..‏ النساء‏..‏ النساء‏..‏ النساء‏.‏
‏(4)‏
اقتربت منه بعد واحدة من صبواته المتحققة‏.‏ ولما كان في أملح هيئة رأيته عليها‏,‏ خاطبته‏:‏
يا معلم‏..‏ خبرني عن العشق‏.‏
فقال بأرخم صوت وأعذب نبرة‏:‏
العشق حال يضم كل الأحوال‏.‏
وفرد ذراعيه بامتداد كتفيه وأخذ يدور حول نفسه ويلف‏,‏ يدور ويلف‏,‏ يدور‏...‏
‏(5)‏
طاف معلمي بشوارع وحارات وأزقة المدينة مشعثا مغبرا يبحث عن إحدي معذباته‏,‏ وكنت أمشي خلفه‏,‏ أتبعه أراه ولا يراني‏,‏ فالتقته امرأة عابرة فاستوقفته وقالت له‏:‏
إن كانت بك غلمة جعلت من جسدي مطفأة لها‏.‏ وإن كنت قد كلفت بمن أوجدتك لخلة فيها أخبرني بها لأصطنعها لك‏.‏ وإن كانت برنوة لحظ أو بسمة ثغر قد سبتك فبين شفتي ورموش عيني مفاتيح حريتك‏.‏
لسخاء وبلاغة هذه المرأة لسانا وجسدا توقعت من معلمي أن يرد عليها ويستجيب‏,‏ لكنه نظر إليها نظرة المغيب‏,‏ وحاد عنها وتخطاها واستمر يطوف بشوارع وحارات وأزقة المدينة‏,‏ وأنا أتبعه حتي أصابني الكلال وتمنيت لو أعلنت له عن وجودي وأوقفته‏.‏
‏(6)‏
بعد أن قضي معلمي وطرا‏,‏ قال لي وكان منبسط النفس منكشف السريرة‏:‏
تعال أعلمك من الحب أشياء‏..‏ الحب محطة تسبقها محطات‏,‏ وتليها محطات‏,‏ فلن تصل إلي الحب من غير هوي وشوق وحنين‏,‏ فإن وصلت فبعده الألفة والشغف والغرام‏,‏ فإن أفرطت في الحب فأنت عاشق‏,‏ وإن آلمك الهجر فأنت متيم‏,‏ وإن كاد يسلب منك عقلك فأنت هائم‏,‏ فإن استلبه كله فأنت ولا تتحسر علي نفسك مجنون‏.‏
وابتسم ابتسامة الخبير‏:‏
وللحب أحوال وما أكثرها أيها البائس‏,‏ من الولع‏,‏ وأنت مولع مادام تعلقك بالمحبوب شديدا‏,‏ فإن اقترن ولعلك بالهم والكرب فهو الشجن قد آتاك‏,‏ وإن استنبت الشجن ألما تنشأ اللوعة‏,‏ ومع شدائد الشوق تظهر التباريح‏,‏ فإن صاحب الحب كتمان حتي ضاق الصدر به فهو الجوي‏,‏ ومع الحزن العميق قد يتحول الجوي إلي كمد‏,‏ فإن انفعلت بحزنك فهو الوجد‏,‏ فإن تسبب الوجد في شدة التحير فأنت وله‏,‏ فإن أغرقك الوله فقد بت كلفا‏.‏
ثم قهقه حتي بانت نواجذه‏:‏
‏..‏ ومع هذا قد يصل الحب بالمحب إلي الجنون دون أن يقف في أي محطة‏,‏ وقد يصير كلفا بغير رؤية منه للمحبوب‏.‏
‏(7)‏
قلت لمعلمي‏:‏
مادامت سفرة الحب مبدوءة بالهوي‏,‏ فهذا أدعي لعدم القيام بها أو الرجوع عنها‏,‏ فالهوي سقوط‏..‏ وما سمي الهوي هوي كما أخبر من خبروه إلا أنه يهوي بصاحبه في المهالك‏.‏ وكما تعلم يا معلم قيل الهوي هوان‏.‏
فاعترت معلمي غمامة كتلك التي تعتريه عندما يكتشف غباء أحد تلاميذه‏,‏ لكنه أزاحها بجهد بانت أماراته عليه‏,‏ ثم شهق شهقة بالغة العمق حتي خلتني سأنحشر في إحدي طاقتي أنفه‏.‏ لما زفر ما شهقه وقر قال‏:‏
إنما الهوي هوا‏,‏ فهل أنت بمستغن عن الهوا ؟
‏(8)‏
كالطيف المنير مرت هيفاء من أمام معلمي فتدله بها ودنف‏.‏ ولما لم يجد منها إلا الصدود فقد أوجد حتي شف‏,‏ وأدخله هواه في أحوال غير الأحوال‏,‏ وأتي بأفعال لا يأتيها عاقل‏,‏ فلما أفاق استأذنته لأفاتحه فيما يقلقني منه كلما دهمته حالة حب‏,‏ فلما أذن لي قلت‏:‏
يخيل لي يا معلم أنك تكون ذاهب العقل حين تحب‏.‏
فابتسم مكدودا متعبا وقال‏:‏
بالحب لا نعقل‏,‏ وبالعقل لا نحب‏.‏
ولم أعرف لماذا أحسست وقتها أنه إنما يمزح‏,‏ علي الرغم من أنني أكاد أوقن أن صد أي محبوب له يقربه بالحتم من حافة الجنون‏.‏
‏(9)‏
خرج معلمي من إحدي غرامياته مجهدا مضعضعا‏,‏ لا ذاق رضابا ولا طعم شهدا‏.‏ ومن فرط ما تأجج حم وما عاد بقادر علي الإتيان بما كان يقدر عليه‏,‏ فكان حريا بي وحاله هكذا أن أعمل علي تطبيبه وتوفير الأوقات والظروف التي تكفل راحته واسترداده لعافيته‏,‏ وأن أمنع عنه تلاميذه وزواره‏,‏ وهذا ما فعلته‏,‏ فلما برئ مما أصابه واستعاد أزمة بيانه‏,‏ احتشد حول شعب كثيف من الولهي المكتوين بنيران الجوي يواسونه ويواسون أنفسهم‏.‏
قال أحدهم‏:‏
هكذا هو حال المحبين يا معلم‏..‏ يأس وعذاب وحسرة‏.‏
وقال آخر‏:‏
لا يخلع الحب علي أبداننا سوي كسوة الذل والهوان‏.‏
وتبعه آخر‏:‏
سياط الحب لاسعة‏,‏ وسهامه قاتلة‏.‏
وإذ يهم غيرهم باستكمال التوجع‏,‏ الذي يظنونه مواساة‏,‏ أوقفهم معلمي ببسطة كف ثم قال‏:‏
أيها الموجودون الولهي‏..‏ لا تفتئتوا علي الحب بالباطل‏,‏ فما أمسك الحب سوطا وما رمي سهما‏,‏ وما أورثنا اليأس والعذاب والحسرة‏,‏ وما أذلنا أو ألقي بنا إلي هوة الهوان‏,‏ فكل ما منه تشتكون من صنع المحبوب القاسي‏.‏ وهو قاس لأنه مثلكم‏,‏ من نفس طينتكم جبل‏,‏ وعلي ذات أرضكم عاش‏.‏
ثم نهض ورنا إلي البعيد واتخذ سمته حينما يهم بقول يريده أن يثبت في آذان سامعيه‏,‏ ثم قال وقد أشرق محياه‏:‏
‏..‏ الحب كالمطر يهمي علي الصحراء فيربيها‏,‏ وعلي الجلمد فيرعشه‏,‏ وعلي الميت فيحييه‏,‏ لا يلومن أحدكم محبوبه وإن أذاقه ما يظنه مر العذاب‏.‏ أحبوا محبوبيكم وإن هجروكم‏.‏ أحبوهم لأنه لابد لكم أن تحبوا‏.‏ أحبوهم ولا تكونوا عبيدا لهم‏.‏ لا تسلموهم معاصمكم فتندموا‏,‏ لأن الحب انطلاق‏.‏ ارفلوا فيما تظنونه عذابا‏,‏ ولو تعلمون هو النعيم المستحيل‏,‏ ارفلوا فيه وتنعموا تنعم المحبين الأحرار‏.‏ أيها الموجودون الولهي‏..‏ ما دمتم قد ذقتم حلاوة الحب فأحبوا‏,‏ وإلا ما استحققتم أن تكونوا محبين‏.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.