يفاجئها الصوت قويا ثم يتلاشي, غرض ما سقط علي أرضية المطبخ فتحطم, يتبعه بكاء مكتوم لابنتها ذات العشر سنوات, ينخلع قلبها, تنادي طفلتها بهدوء مصطنع وبحنان بالغ ولا تتلقي ردا, تعيد الكرة فيرتفع صوت البكاء قليلا, يستبد بها القلق فتسألها بحزم: ماذا حدث؟ هل أصبت؟ تأتيها طفلتها منكسة الرأس دامعة العين معتذرة: لم أقصد, سقط الطبق فانكسر, انزلق من يدي وأنا أغسله.. تبتسم بإجهاد, وتسألها مشجعة: أنت بخير؟ لم تصابي بأذي؟ تهز الطفلة رأسها أن نعم, أنا بخير, لكن الطبق.. تشير لها ألا تكمل وتفتح لها ذراعيها, تجري الطفلة, تلقي بجسدها النحيل في أحضان أمها, ومن بين دموعها تعتذر: أنا آسفة! تأخذ سعاد وجه طفلتها بين يديها, تمسح دموعها التي تتحدر كلؤلؤ علي وجنتين بريئتين, تنظر في عينيها الدامعتين مشفقة عليها, وابتسامة حب علي وجهها فتهرب الطفلة بعينيها وتنظر إلي الأرض, تقول سعاد في حسم: لا.. لا.. لا تنكسي رأسك! لا أحب هذه النظرة المنكسرة في عينيك, انكسر طبق.. لا مشكلة, أما ابنتي حبيبتي فلم تنكسر, يفارق الطفلة خجلها وتعود لها نفسها وتشعر بالثقة تدب في روحها, فتنظر إلي وجه أمها المجهد, وتغرق في بحر عينيها الحزينتين, وتبتسم, فتضحك سعاد راضية بابنتها وسعيدة بذكائها رغم صغر سنها, وتقول لها: نعم.. هكذا.. دائما مرفوعة الرأس.. فأنت ابنتي وسندي, تؤمن الطفلة علي كلام أمها, تكمل الأم: كالمرات السابقة, بهدوء وحذر, اذهبي واجمعي الشظايا المكسورة حتي لا يصاب أحد من أخوتك بأذي, تمرق الطفلة إلي المطبخ تاركة أمها حبيسة عجزها عن الحركة, وقد غطت ساقيها المشلولتين بملاءة بيضاء. كانت حياة سعاد تسير متهادية رتيبة ككل نساء قريتها النائمة بين حقول الدلتا وغيطانها, ما إن استدار جسدها واكتملت أنوثتها ونضج جمالها حتي جاء الخطاب يدقون باب بيت أهلها, يطلبون الود والوصال بالحلال, ويبذلون ما يستطيعونه من وعود كبيرة ومهور قليلة تناسب حالتهم المادية التي لا توصف إلا بأنها مستورة والحمد لله, لكن من يهتم بالمال؟ المهم هو ابن الأصول الذي يحفظ زوجته ويرعاها ويستطيع أن يفتح بيتا ويصونه, ومن بين كل الخطاب اختارت نصيبها, أو اختاره لها القدر الذي كان يخبئ لها الكثير. تزوجت سعاد, ودارت الأيام بحلوها ومرها, ورزقها الله وزوجها البنات والبنين, وبدا أن الأمور تسير في طريقها المعتاد حتي كان يوم, يوم قدر الله أن تنقلب حياة سعاد رأسا علي عقب, وأن يختبرها الله اختبارا قاسيا, لعلها نجحت فيه بصبرها ورضاها بالمكتوب, في حين فشل زوجها وأبو أبنائها في أن يجتاز الاختبار, وأعلن استسلامه ورفع الراية البيضاء وقرر هجرها والخروج من حياتها. في ذلك اليوم القريب وكأنه بالأمس رغم مرور خمس سنوات عليه, كانت سعاد تعبر الطريق حين جاءت سيارة مسرعة, يقودها إنسان طائش, فصدمتها وألقت بها في عرض الطريق بين الحياة والموت, وكان الموت أقرب إليها لولا أن أسرع بها أولاد الحلال إلي مستشفي المنصورة العام لينقذ الأطباء حياتها, أو لنقل لينقذوا نصف حياتها, فبعد ستة شهور قضتها سعاد في المستشفي, وإجراء العديد من العمليات الجراحية التي تكلفت الكثير من المال, وتركيب عدد من الشرائح والمسامير لتثبيت العظام التي تفتتت بسبب الحادث, أعلن الأطباء أن هذا أقصي ما يستطيعون تقديمه لها, وخرجت من المستشفي إلي بيتها علي كرسي متحرك, فقد تسبب الحادث في ضرر بالعمود الفقري, أثر علي سلامة النخاع الشوكي مما أدي إلي إصابتها بشلل في الساقين وأعجزها عن الحركة, ويومها قال لها الأطباء معتذرين بقلة إمكانات المستشفي: إن عليها إن رغبت في استكمال العلاج أن تذهب إلي مستشفي تجري فيه عمليات زرع النخاع حتي تتمكن من السير علي ساقيها ثانية. عادت سعاد إلي أطفالها مريضة منهكة عاجزة, نصف جسدها خارج عن نطاق سيطرتها ومصاب بالشلل, ولم تعد ترعي شئون أطفالها أو تلبي احتياجاتهم; بل أصبحت في حاجة إلي من يرعاها ويرعاهم, فهي عاجزة عن الحركة, عن الوقوف في مطبخها لإعداد طعامهم الذي يحبونه, عن حمل طفل منهم وهدهدته حتي ينام, عن تغيير ملابسه المتسخة, أو حتي عن الاعتناء به إذا غاب عن عينها في إحدي غرف الشقة, لكن الأمل في الشفاء كان يدفعها لطلب المساعدة ممن يستطيع تقديمها, فقدمت أسرتها التماسات وطلبات للمسئولين لمساعدتها, وجاءت موافقة كريمة من وزير الدفاع بإدخالها مستشفي المنصورة العسكري, وخضعت للفحص الطبي, وأجريت لها التحاليل والأشعة اللازمة, وأكد الأطباء هناك أن حالتها قابلة للشفاء إذا تم زرع نخاع لها, ولكن هذه العملية غير متوافرة في المنصورة ويجب أن تسافر إلي القاهرة لإجرائها. مع مرور الوقت بدأ الأمل في الشفاء يخبو, فالحالة المالية لسعاد وأسرتها لا تستطيع توفير تكاليف إجراء العملية, خاصة أن زوجها تخلي عنها, فقد أصبحت عبئا عليه, فهجرها وأرسل لها ورقة طلاقها, وتركها مع أبنائها تعاني الوحدة والضعف والعجز عن الفعل والحركة, ولكنها لا تزال تتمسك بالأمل في أن تجد علاجا بزرع نخاع في أحد مستشفيات القاهرة, لذا تناشد سعاد طلبة طلبة إبراهيم, المقيمة في قرية الدنابيق التابعة لمركز المنصورة بمحافظة الدقهلية, والتي تعاني من شلل نصفي نتيجة تضرر عمودها الفقري إثر حادث سيارة منذ خمس سنوات, وأوصي الأطباء الذين عالجوها بمستشفي المنصورة العام وبالمستشفي العسكري أيضا بضرورة إجراء عملية زرع نخاع, تناشد الدكتور أحمد عماد وزير الصحة بالموافقة علي إجراء العملية لها بأحد مستشفيات القاهرة علي نفقة الدولة, حتي تستطيع أن تستعيد حياتها وقدرتها علي الحركة وعلي رعاية أبنائها الذين لا يتبقي لهم غيرها خاصة بعد أن هجرها زوجها بعد إصابتها.