الحياة في الإسلام مقدمة علي الدين, أوامر الحنيفية السمحة إن كانت تختطف العبد الي ربه, وتملأ قلبه من رهبه, وتفعم أمله من رغبه, فهي مع ذلك لا تأخذه عن كسبه, ولا تحرمه من التمتع به, ولا توجب عليه تقشف الزهادة, ولا تجشمه في ترك اللذات ما فوق العادة. هذا القول الحكيم من كتاب: الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية, الشيخ محمد عبده, الطبعة السابعة, مطبعة المنار1367 هجرية. ما يعنيني اليوم هو فصوص الحكمة المنثورة في كتابات الإمام, سواء كانت مقالات صحفية, أو أدبية, أو إصلاحية, أو فلسفية, أوكتبا فلسفية. هذه المآثر الأصيلة تدل علي تفرده وتميزه, وعلي موهبته الفذة. القاريء لأي كتابة له يمكنه استخلاص الكثير من فصوص الحكمة تلك. يقول في نفس الكتاب: من أصول الأحكام في الإسلام: البعد عن التكفير الإسلام يوسع صدره للغريب كما يوسعه للقريب بميزان واحد, وهو ميزان احترام العلماء للعلم. أول أساس وضع عليه الإسلام هو النظر العقلي. والنظر عنده وسيلة الإيمان الصحيح, فقد أقامك منه علي سبيل الحجة وقاضاك الي العقل, ومن قاضاك الي حاكم فقد أذعن الي سلطته, فكيف يمكنه بعد ذلك أن يجور أو يثور عليه؟. لكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله, وعن رسوله من كلام رسوله, بدون توسيط من أحد من سلف ولا خلف.... فليس في الإسلام ما يسمي عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه. يقولون: إن لم يكن للخليفة ذلك السلطان الديني أفلا يكون للقاضي أو المفتي أو شيخ الإسلام؟, وأقول: إن الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدني سلطة علي العقائد وتقرير الأحكام, وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنية قررها الشرع الإسلامي, ولا يسوغ لواحد منهم أن يدعي حق السيطرة علي إيمان أحد أو عبادته لربه, أو ينازعه في طريق نظره. الإسلام لم يبخس الحواس حقها. كما أنه هيأ الروح لبلوغ كمالها. فهو الذي جمع للإنسان أجزاء حقيقته واعتبره حيوانا ناطقا لا جسمانيا صرفا ولا ملكوتيا بحتا. جعله من أهل الدنيا كما هو من أهل الآخرة. وإستبقاه من أهل هذا العالم الجسداني كما دعاه الي أن يطلب مقامه الروحاني, أليس يكون بذلك وبما بينه في قوله( هو الذي لكم ما في الأرض جميعا) قد أطلق القيد عن قواه, ليصل من رفه الحياة الي منتهاه؟ النفوس مطبوعة علي التنافس, قد غرز فيها حب التسابق فيما تعتقده خيرا أو تظنه نافعا. ليس في الغريزة الإنسانية أن يقف بها الطلب عند حد محدود أو ينتهي بها السعي الي غاية لا مطلع للرغبة وراءها. بل خصها الله بالمكنة من الرقي في أطوار الكمال من جميع وجوهه الي ما شاء الله أن ترقي بدون حد معروف. كيف يتسني للمسلم أن يشكر الله حق شكره, إذا لم يضع العالم بأسره تحت نظر فكره, لينفذ من مظاهره الي سره, ويقف علي قوانينه وشرائعه, ويستخدم كل ما يصلح لخدمته في توفير منافعه؟. كيف يشكر الله إذا تواني في ذلك وقد أرشده الله في كتابه وبسنة نبيه الي أن عالمه إنما خلق لأجله, وقد وضعه الله تحت تصرف عقله. المسلمون مسوقون بنابل من دينهم الي طلب ما يكسبهم الرفعة والسؤدد والعزة والمجد, ولا يرضيهم من ذلك ما دون الغاية, ولا يتوافر شيء من وسائل ذلك إلا بالعلم فهم محفوزون أشد الحفز الي طلب العلم وتلمسه في كل مكان, وتلقيه من أي شفة وأي لسان, فإذا لاقاهم العالم في أي سبيل أو عثروا به في أي جيل, أو ظهر لهم من أي قبيل, هشوا له وبشوا, ونصبوا إليه وكمشوا وشدوا به أواصرهم, وعقدوا عليه خناصرهم, ولا يبالون ما تكون عقيدته, إذا نفعتهم حكمته... ذلك شأن المسلم مع العلم إذا كان مسلما حقا, وذلك ما تنجز إليه طبيعة دينه. إن الإسلام لن يقف عثرة في سبيل المدنية أبدا, لكنه سيهذبها وينقيها من أوضارها, وستكون المدنية من أقوي أنصاره متي عرفته وعرفها أهله. متي ولع المسلمون بالتكفير والتفسيق, ورمي زيد بأنه مبتدع وعمرو بأنه زنديق؟. إن ذلك بدأ فيهم عندما بدأ الضعف في الدين يظهر بينهم وأكلت الفتن أهل البصيرة من أهله تلك الفتن التي كان يثيرها أعداء الدين في الشرق وفي الغرب لخفض سلطانه, وتوهين أركانه... وتولي شئون المسلمين جهالهم, وقام بإرشادهم في الأغلب ضلالهم, في أثناء ذلك حدث الغلو في الدين, وإستعرت نيران العداوات بين النظار فيه, وسهل علي كل منهم لجهله بدينه أن يرمي الآخر بالمروق منه لأدني سبب, وكلما ازدادوا جهلا بدينهم إزدادوا غلوا فيه بالباطل, ودخل العلم والفكر والنظر في جملة ما كرهوه, وإنقلب عندهم ما كان واجبا من الدين محظورا فيه. إن المسلمين لما كانوا علماء في دينهم كانوا علماء الكون وأئمة العالم, أصيبوا بمرض الجهل بدينهم فإنهزموا من الوجود وأصبحوا أكلة الآكل, وطعمة الطاعم, هل وقف الجهل بالمسلمين عند تكفير من يخالفهم في مسائل الدين, أو يذهب مذهب الفلاسفة أو ما يقرب من ذلك؟ لا. بل عدا بهم الجهل علي أئمة الدين, وخدمة السنة والكتاب. إن حالة طلبة العلوم الدينية الإسلامية أصبحت مما يرثي له في أكثر بلاد المسلمين, فهم لا يقرأون من كتب الكلام إلا مختصرات مما كتب المتأخرون. يتعلم أذكاهم منها ما تدل عليه عباراتها, ولا يستطيع أن يتعلم البحث في أدلتها, وتصحيح مقدماتها, وتمييز صحيحها من باطلها. يقول الدكتور السيد تقي الدين السيد في كتابه محمد عبده, مكتبة النهضة,1989: حينما نلقي نظرة فاحصة علي تاريخ الإمام تطالعنا حقيقة لا تقبل الشك أو الجدل, تلك هي حكمة الإمام واتزانه. ولعل ما قوي هذه النزعة فيه دراسته المستفيضة للمنطق وبصيرته النافذة. ولقد مر بتجارب عديدة أكسبته حنكة ومرانة فكان إذا تكلم إنعكست تجاربه علي كلامه فيجيء موزونا بميزان العقل الكبير والخبرة المتأصلة, والمعرفة العميقة, فيضع كل لفظ في مكانه. وكل فكرة في نصابها ينطق فكره عن صواب, وتأتي عباراته ترجمة عما يؤمن به ويعتقد. نعم كان الإمام هكذا في كل ما كتب من مقالات صحفية وأدبية وإصلاحية, لدرجة أن كل ما يكتبه يعتبر نوعا من الحكم الخالدة. من هذه الأقوال المأثورة ما أورده السيد محمد رشيد رضا في نهاية الجزء الثاني من كتابه تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده, مطبعة المنار,1931, منها: العلم ما يعرفك من أنت ممن معك. العدل للإسعاد, كلمة الله للإيجاد. العفة ثوب تمزقه الفاقة. أشد أعوانك الحاجة إليك. إنما تتم نكاية الأعداء بخيانة الأصدقاء. جحود الحق مع العلم به كاليقين في العلم كلاهما قليل في الناس إنما بقاء الباطل في غفلة الحق عنه. الرجوع عن الحق بعد العلم به محال. من عرف الحق عز عليه أن يراه مهضوما. لا يكون أحد صادقا ومخلصا حتي يكون شجاعا. ما وعظك مثل لائم, ولا قومك مثل مقاوم. ما دخلت السياسة في شيء إلا أفسدته. الذل يميت الإرادة. من لا صديق له فهو عدو نفسه وعدو الناس. حسبك من الصديق أن ينصرك بقلبه. تغلغل الموت في جسم الأمة حتي أصبحت لا تسمع النداء ولا تنتفع بالدواء. من أهم ما يجب التصريح به ما إنتشر بين العامة مما يحسبونه دينا, وهو ليس بدين. من شؤم بلادي أن لا أجد فيها من أستفيد منه, وتمنيت لو كل الناس أعلم مني. ما رأيت بلدا جعل فيه الدين دكانا مثل هذا البلد( يعني مصر). ينبغي لأهل العلم أن يعملوا بما يتعلمون حتي لا يصدق عليهم قوله تعالي( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون). القرآن كلام أبدي رقم علي صفحات الزمن الي قيام الساعة خطابا لجميع البشر. في تفسير القرآن وفهم الدين لا يتبع إلا الدليل القاطع, لأن هذا من باب العقائد, وهو مبني علي اليقين الذي لا يمكن الأخذ فيه بالظن والوهم. إن المسلم من أخذ القرآن بجملته من أوله الي آخره, ولا يكون كمن قال فيهم الله تعالي( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض). درجات العلم تتفاوت جدا, والقرآن لم يعد منه شيئا حقيقيا إلا العلم الذي يهدي الي العمل, وهوالمتمكن في النفس, الذي تصدر عنه الآثار مطابقة له, وكل من يعتقد شيئا ولم يقف علي سره ولم ينفذ الي باطنه فهو عبارة عن خيالات تزول بمجرد الشبهة. فهم القرآن متوقف علي فهم العالم, وقد نزل للناس وهو يعبر عنهم, فلا يمكن فهمه إلا بفهمهم أيضا أي فهم حقيقة أحوالهم وسنن الله فيهم. القرآن لابد أن يؤخذ من أقرب وجوهه, وإياك والتعمق في التأويل الذي يجر الي البعد عن معانيه الصحيحة. لا توجد مرآة يري فيها عبدة الطاغوت أنفسهم أجلي من هذا القرآن, فإذا لم يكن في قلب الإنسان منفذ لدخول روح الله يخرج من كل نور الي ظلمة. إني عندما أسمع القرآن أو أتلوه أحسب أني في زمن الوحي, وأن الرسول عليه السلام ينطق به كما أنزله جبريل عليه السلام. إن لكلام الله أسلوبا خاصا يعرفه أهله ومن امتزج بلحمه ودمه, وأما الذين لا يعرفون منه إلا مفردات الألفاظ وصور الجمل فأولئك عنه مبعدون. لو وقفنا عند حدود الله في كتابه لكنا أعز الناس وأحبهم إليه, ولكن غلونا فوقعنا فيما وقعنا. لا يمكن لهذه الأمة أن تقوم ما دامت هذه الكتب فيها( يعني كتب التعليم التي تدرس في الأزهر وأمثالها), ولن تقوم إلا بالروح التي كانت في القرن الأول وهي القرآن, وكل ما عداه فهو حجاب قائم بينه وبين العلم. وقال في وصف الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا: هؤلاء قوم كلما رأوا أو سمعوا شيئا يوميء الي قوة الدين وعظمته يستنكرون, ويقومون ويقعدون. وأما الخرافات فهم بها راضون. الإعتماد في تلقي العلم علي مجرد الثقة دائما يكون معه لائح الشبهة الي أن يقف الشخص علي الدليل. كذب الإنسان علي نفسه وتغريره بها يحمل الإنسان كثيرا علي الإبتعاد عن الحق والأخذ به. الذل حالة تجعل المرء مهضوم الحق قهرا. وجود قليل من الأمة صالحين لا يدفع عنها نقمة الله التي يعاقب بها الأمم عند فسادها. المعارف الشكية عرضة لإيقاع الإنسان في الخطر. كل شخص في العالم يفضل حالة علي حالة, فما دام علي يقين من الوصول إليها لا يبالي بما نال من الأخطار في طريقها. وقال في وصف أناس إستحكم فيهم الجهل والجمود: هؤلاء قوم يحبون أن يقعدوا في صندوق من الجهل ويقفلوه علي أنفسهم من داخله حتي لا يأتي فاتح يفتحه ويفرج عنهم. إذا إنحرف الإنسان من الإستقامة لا يمكنه أن يصل الي حد مطلقا. إن الله لم يضع الراحة في غير العمل. مجاهدة الإنسان بطرد الخواطر عنه في الصلاة عبادة. معرفة سيرة الرسول عليه السلام وأصحابه من أول الواجبات وإن كان لا يجب علي كل مسلم أن يعرفها بالتفصيل. سنة الله في خلقه أن أتباع الحق يكونون فقراء في أول الأمر, ثم سلاطين وأمراء في آخره, لأن الحق حليم, والباطل سفيه, والحق لا يظهر إلا إذا بلغ الباطل آخر حده فحينئذ يظهر الحق لمصارعته. التوحيد كمال الإنسان, والوثنية هي الغالبة علي الناس وذلك إما بالجهل المحض, أو بالأخذ والتشكل مع إدعاء التوحيد. الحياء أحسن فضيلة في الإنسان تمنعه عما لايليق به, ونعم الخلق الحياء. كل ما يصدر عن الإنسان مخالفا لما يعتقده حسنا فهو ذنب. الفكر في المخلوقات طاعة مستقلة. كل ميل له سلطان علي الإنسان يقوده الي العمل رغما عنه فهو معبود له, وذلك الإنسان ممن إتخذ إلهه هواه, لأن الحق لا يجد من نفسه مكانا إلا قليلا. وقال في مخاطبة بعض أهل الجمود: إذا بقيتم علي جهلكم بالتاريخ الي هذا الحد فلا يمكنكم أن تعرفوا دينكم ولا نجاح لكم في دنياكم. العلم اليقيني أن تعلم أن الشيء واقع وأن نقيضه غير واقع فمن صدم الدليل وقاومه يقال إنه عالم ولكن يقال إنه أضله علي علم. المؤمن من عرف الحق من وجهه وطريقه ورجوعه عن ذلك محال. من فروض الكفاية علي الأمة أن يوجد فيها طائفة يحصلون أحكام الله من كتابه وسنة رسوله ويردون الناس إليهما. من يدعي أنه علي حق ولا يعمل به فهو كاذب ويكون من قبيل الذين قال الله فيهم( يفترون علي الله الكذب). إذا لم توجه الأعمال لغايتها فالله كفيل بعدم نجاحها. مهما بلغ الإنسان في العلم لا يسلم من هاجس في نفسه يثبطه ويقول له: إسترح, ولكن العاقل لا يركن له. إذا كان الإنسان علي علم حقيقي فهو حريص علي تعليمه خصوصا إذا كان هذا العلم من الدين, ومن العجيب أنا لا نري أزهد من المسلمين في التعليم. من السنن الإلهية التي لا تتغير ولا تبدل أن الاتفاق والاعتصام والاتحاد عماد ترقي الأمم وفوزها, والتخاذل علة إنحطاطها وذلتها, سواء ذلك كان في الماضي والحاضر والمستقبل, ولن تجد لسنة الله تبديلا.