ظلت أجيال متعاقبة ربما لحوالي قرن من الزمن لا تعرف عن الكرة علي المستوي المحلي سوي فريقي الأهلي والزمالك,وعلي المستوي الدولي المنتخبات الكبري التي تتنافس في المسابقات الدولية وأهمها كأس العالم,لكن في ظل ثورة الاتصالات ودخول كرة القدم إلي عالم الصناعة والتكنولوجيا بجميع مستوياتها وجوانبها; ودخولها عالم الاستثمار ودخولها كأحد أهم منتجات الإعلام لم تعد كرة القدم مجرد رياضة,بل أصبحت صناعة ضخمة تضاهي أكبر الصناعات وأثقلها. لا شك تملك بعض الدول الأوروبية السبق في هذا الميدان, وقد أسهم ما تملكه من خبرات وتقدم وفوائض مالية في أن تصبح بعض دورياتها هي الأهم عالميا, وهي محط اهتمام كبير داخل أوروبا وخارجها, بل إنها من خلال الكرة قد قدمت للعالم ثقافة ونماذج جديدة ربما لم تتمكن من تقديمه عبر الوسائل السياسية أو حتي العسكرية لسنوات ممتدة. في ظل هذه الثورة الكونية في عالم كرة القدم لم يعد الانتماء الرياضي محصورا علي الفرق الوطنية,بل تعدي الانتماء لحدود الدول والقارات,لقد أصبح في بيوتنا من يشجع الفريق المدريدي وهناك من يشجع برشلونة وربما بتعصب,هذا في واحد من الدوريات الأوروبية, وينتقل الانتماء ليحط رحاله في كل دوري من الدوريات العالمية ليصل إلي فرق انجليزية وألمانية وإيطالية وفرنسية. إنها حالة من حالات الهوس العالمي بكرة القدم, ملايين البشر يقبعون خلف الشاشات يتابعون اللعبة الساحرة التي تكاد تكون ثقافة وحدها ولغة وحدها يتفاعل بها ومعها الملايين في كل بقاع الأرض,الشوارع تكاد تكون خالية مع متابعة هذه الدوريات الكبري ومنافساتها القوية, مصر علي سبيل المثال التي أصبحت مليئة بالكافيتريات والمقاهي أصبحت ملجأ لملايين من الشباب الذي ينتظر المباريات ليقضي وقت فراغه ويتسامر. يبدو أن الكرة تفعل ما عجزت عنه كثير من وسائل الاتصال بين الشعوب, فهي أسهمت في خلق المواطن العالمي المتفاعل مع أقرانه في كل العالم, يفرح ويحزن, يشجع وينتمي. في ظاهر ما يحدث يبدو الأمر تطور طبيعي لتحول العالم إلي قرية صغيرة واستفادة المواطنين في الدول من ثورة الاتصالات والمعلومات, لكن في مضمونه يبدو الأمر أكبر وأعمق من ذلك بكثير, لا سيما في العلاقة بين دول تقديم الخدمة ودول الاستقبال, دول الشمال الغنية ودول الجنوب الفقيرة. فالمواطن في جنوب العالم حيث الواقع من حوله مشوه ويعاني من خلل ضخم وفقد دائم, مصدوم ومبهور بالرسالة الضمنية التي يراها ويتفاعل معها خلال دقائق ينتقل فيها من هذا الواقع البائس إلي هذا العالم الافتراضي الذي يتمناه, بين لحظات الانتقال المؤقت والعودة الدائمة تتشكل حدود مطالب المواطن متعدية ركلات الكرة بين اللاعبين ومهارات بعضهم الفائقة, حيث يؤثر فيه بلا شك النظام وإنجاز العمل بكل تفاصيله الصغيرة والكبيرة, تبرز فيه الدقة وعدم ترك أي شيء للظروف, تبرز فيه أنظمة العمل, وجودة الأداء, دقائق من الانبهار بالملاعب وإبداعها, بالجماهير وتفاعلها, وبالمسئولين وأدائهم. في الحقيقة لا يمكن عزل ما يحدث في العالم عن واقعنا,ولا يمكن أن نتجاهل تأثير عشرات الرسائل التي يحملها هذا التفاعل علي مجتمعاتنا,بل حتما تعد مشكلتنا الرئيسية هي عدم إدراكنا للواقع الذي تغير وتعاملنا معه وكأن شيئا لم يتغير,يجب أن ندرك أن المواطن الكوني القابع لساعات أمام النماذج الأوروبية الحضارية بكل تفاصيلها والمتفاعل مع هذا المنتج المبهر والتساؤلات المثارة في ذهنه حول الأسباب الواقفة خلف هذا الإنجاز, هي في حقيقتها تشكل رؤية نقدية للواقع, وربما تخلق لحظات سخط لدي بعض هؤلاء المحبطين, سخط من واقعهم ونظمهم وسلطاتهم التي تبدو عاجزة بصورة شبه كاملة.