هل الوطن صورة واحدة كبيرة لنا جميعا أم صور صغيرة كثيرة تفرقنا. صورة مهيمنة وصور مقاومة تتصارع فى ساحة السياسة أم صور مختلفة تتباهى وتتجمل فى ساحة الفن والثقافة. جزء من جماعة أكبر أم جماعة واحدة خالدة أم أفراد متفرقون لا يجمعهم إلا مكان واحد؟! لم يكن يتوقع أحمد القمحاوى، طالب الهندسة بالجامعة الألمانية، أن تبكى إحدى زميلاته عندما كان يقدم لزملائه باللغة الإنجليزية العرض الذى أعده عن «تراجع الشعور بالهوية المصرية عند الشباب» فى أثناء الفصل الدراسى الماضى. رد الفعل الدرامى المبالغ فيه كان مفاجئا لأحمد رغم حماسته الشديدة التى يقول إنه اضطر لتقليصها كثيرا بسبب المحاذير داخل الجامعة من التطرق للتابوهات الثلاثة: السياسة والدين والجنس. ربما كان ذلك بسبب صورة القارب الممتلىء عن آخره بمهاجرين غير شرعيين يبدون فى مظهر بائس، تعاطفا معهم وأسفا على مصيرهم المرتقب. أو ربما تأثرت بما اقتبسه من المفكر الراحل جمال حمدان عن ملامح «شخصية مصر» وما استخلصه من أن مصر من أعظم الأمم فى التاريخ إن لم تكن أعظمها، رغم أن شبابها الآن يسخرون من هذه الفكرة وكل تجلياتها فى الدراما والأغانى الوطنية. معظم طلاب فصله الدراسى تحمسوا وصفقوا لعرضه وأفكاره، لكن فكرة أحمد عن معظم زملائه غير ذلك فهو يقول إن طلاب الجامعة الألمانية هم من أبناء الشرائح الأغنى فى المجتمع المصرى، ورغم ذلك فهم يشتركون مع الأشد فقرا فى أنهم أقل شعورا بالانتماء لهذا البلد. وحسب تفسير أحمد فإن معظم الأغنياء منفصلين عن المجتمع متطلعين للغرب يظنون أنه جنة على الأرض وينظرون نظرة دونية للبلد ولأغلبيته الفقيرة، من الذين لا يجدون لهم مكانا أو حقوقا ولا يقومون بأى جهد للمطالبة بهما. لا أحد يستثنى الطبقة الوسطى من تهمة «فقدان الانتماء» التى أصبحت نمطية ومكررة نوعا، وتنتهى إليها معظم الأبحاث التى تجتهد فى تعداد أسبابها ومظاهرها، ولكن ما لمسه أحمد قد يكون مدخلا جيدا للتساؤل حول ما يمكن أن يكون صالحا ليجمع الفريقين اللذين رصدهما ويجعلهما يشعران بالانتماء إلى نفس الوطن أو يشكلان جماعة واحدة. لا يبدو أن الكلام عن شخصية مصر فى التاريخ والجغرافيا مقنع بما يكفى، بدليل ما لمسه أحمد من أن ذلك أصبح موضوعا دائما للسخرية عند الشباب. بالمثل لا تبدو ناجحة محاولات استنهاض الروح الوطنية فى إعلانات الحكومة الأخيرة التى تتحدث عن «المصرى اللى على حق». فى الواقع أن كلمات «المصرى» أو «البلد» لم تعد تذكر فى سياقات حماسية أو حتى جادة بل أصبحت دائما فى سياق انتقاد ممتعض أو هزل مستهتر. أما «علشان مصر» فهى العبارة الأكثر سخرية عندما يتسرب احتمال أن يكون أحدهم قد فعل شيئا بدافع التزامه تجاه المجتمع. «فكرة الانتماء للبلد فكرة محيرة فعلا!» يبتسم المهندس خالد حمدى وهو يقول:«لا أذكر شيئا من كلمات أغنية (يعنى إيه كلمة وطن) لمحمد فؤاد. لكن ما أعرفه أننى حتى الآن لا تفسير لدى لهذا الأمر سوى أننى ولدت فوجدت نفسى هنا. ومعنى آخر أننى أنتمى لمكان ما و أننى شريك فيه، أفعل شيئا ما وأشارك فى تشكيله». يفكر قليلا قبل أن يكمل: «لهذا أنا لا أعرف تحديدا إن كان عملى لساعات طويلة فى شركة مقاولات يعتبر كذلك أم لا. ولكن ساعات عملى الطويلة لا تمنعنى فقط من الاهتمام بالسياسة، بل يمنعنى مثلا أن أهتم بشئون مجلس إدارة العمارة أو أهتم بشئون الشارع الذى أسكن فيه، أنا حتى لا أعرف كل أسماء جيرانى. لا أعرف إن كان وطنى بالمعنى الحقيقى أصبح فى مكتبى هنا وسيارتى وشقتى وعائلتى ومجموعة أصدقاء نلتقى على مقهى أو اثنين، أعنى الأماكن والأشخاص التى أشعر بينهم أنى فاعل ومؤثر وبينى وبينهم علاقة حقيقية». ما يتحدث عنه المهندس خالد هو تقلص مساحة المجال العام الذى يجمع الناس حتى فى علاقات الجيرة، وهو لا يبدو مقتنعا بأن البلد ستكون بخير لو كل واحد أدى واجبه على أكمل وجه، يشعر أن ذلك تبرير واهٍ: «هناك الكثيرون يؤدون واجبهم جيدا وزيادة، وآخرون فاسدون ومقصرون، لكن المشكلة فعلا أن معظم الناس- وأنا منهم- نسمع ونقرأ عن البلد، نحن نعيش فيها ولكن كل واحد يعيش وحده أو فى أحسن الأحوال مع أسرته ودائرة معارفه، ما الذى يحرك البلد ويشكلها، يحدث ذلك فى مستوى آخر بعيد عنا». بطاقة هوية محاولة اقتحام ساحة السياسة من قبل الشباب المهتم قد تكون مكانا آخر لصنع معنى الانتماء. والانتماء للوطن تحديدا وليس إلى أمة كبيرة قومية أو دينية كان مشتركا بين مشروعات عدة لتيارات ليبرالية تحاول أن تتشكل. مايكل نبيل- العضو الحالى فى الهيئة العليا لحزب الجبهة الديمقراطية- كان قبل ذلك عضوا فى أحزاب «مصر الأم» و»الحزب المصرى الليبرالى» تحت التأسيس. «فى حزب مصر الأم وبدايات الحزب المصرى الليبرالى كانت هناك فكرة إحياء القومية المصرية، والقومية المصرية مثل القومية العربية تقوم على الأصل العرقى المشترك، لكن أنا تخليت عن القومية لأنها عنصرية عرقية، وأرى الآن أن الدولة تبنى على الهوية والمواطنة، باختصار، الهوية هى البطاقة وشهادة الميلاد والباسبور. فإن يكون معك الجنسية المصرية وتدفع الضرائب وتحترم القانون، إذن أنت مصرى بغض النظر عن دينك أو ثقافتك أو أصلك العرقى». يقول مايكل إن المجموعات الليبرالية الداعية للهوية المصرية لاقت قبولا بين الشباب الذى مل الفكرة القومية التى تقول له أنت عربى ولست مصريا، ولكن باستثناء القلائل الذين تجتذبهم ساحة السياسة يرى مايكل نبيل أن أمام الفكرة الوطنية عقبات كثيرة: «نحن دائما نفكر فى المفهوم الشوفينى للوطنية، أى أن تضحى بمالك وجهدك وحياتك من أجل بلدك، ثم تكتشف فى النهاية أنك كنت تضحى من أجل الحاكم وأسرته، ومن الطبيعى أن تنهار الوطنية بهذا الشكل. ولكن المفهوم الليبرالى للوطنية يقوم على أساس تعاقدى، الدولة تلتزم ناحية المواطن بحقوق وعليه واجبات، وعندما لا يحصل المواطن على حقوقه لا يقوم بواجباته ومن غير المستغرب أن يحدث انخفاض فى المشاعر الوطنية». بالإضافة إلى ذلك، الهويات الدينية منافس قوى لأى دعوة لإحياء الهوية الوطنية، فيحكى مايكل نبيل أنه أحيانا ما يدعو بعض الشباب إلى العمل السياسى بدافع أنهم أبناء مصر فيصطدم برد بعض الشباب المسيحى أنهم «أولاد المسيح» ولا ينتمون إلا إليه. ويعتقد مايكل أن طريقة التدين الحالية عند المسيحيين حولت بعضهم إلى رهبان بالمعنى المعنوى، فهم مهتمون بيوم الحساب ولا يهتمون بمشكلات بلدهم، والبعض الآخر يهرب إلى هذه الفكرة ويفقد انتماءه إلى بلده كرد فعل على ما يعتبره «اضطهادا». الهوية الدينية عند المسلمين أكثر وضوحا فى صعودها، واستخدامها فى المجال السياسى قد يتزاوج مع الفكرة الوطنية أو يفترق عنها. عبدالرحمن منصور، طالب الإعلام صاحب الخلفية الإخوانية، يفضل أن يصنف نفسه الآن ك«إسلامى إصلاحى»، ويرى أن الإسلاميين التقليديين يفضلون تحريك مشاعر الناس بالانتماء الرمزى إلى الأمة الإسلامية والقضايا الكبرى بدلا من أن يكونوا عمليين ويبدأون بالعمل فى الوطن الواحد مع أصحاب باقى الأفكار والتوجهات. يعبر عبدالرحمن منصور الذى يقضى حياته متنقلا بين القاهرة والرياض عن قناعاته: «أنا ضد التقوقع داخل الأوطان، وخططى للإقامة والحياة لا تتعلق بوطن معين. ولكن عندى التزام تجاه هذا الوطن، بعيدا عن التعصب الأعمى لكل ما يتعلق به. أحيانا ما تعمى فكرة حب الوطن الأبصار. وأحيانا تكون فكرة مبتذلة فى خطاب عاطفى يتغنى بالأرض والنيل والسماء والرموز». صور الوطن «يجب أن نفرق بين جانب الاستخدام التجارى الذى يتغنى بالوطن وبين الجانب العاطفى فى فكرة الوطن والانتماء إليه»، هذا ما يؤكد عليه محمد الحاج، الذى يعمل فى مجال إنتاج الأفلام الوثائقية. و هو يرى كذلك أن جانبا من فكرة الانتماء هو قدرك الذى يربطك بتراث وتقاليد فى منطقة معينة من العالم ومع جماعة بعينها، وفى هذا الارتباط جانب عاطفى لا يمكن إنكاره. لكن من وجهة نظر محمد الحاج فالانتماء الوطنى لا ينفصل عن الانتماء للمحيط العربى كثقافة ممتدة نحن جزء منها، ويرى فى محاولة الانفصال عن هذا المحيط سذاجة ومحاولة لتغيير قدرنا بعمليات تجميل ستجعلنا نمشى مشية الغراب. بالنسبة لشاب مثل محمد الحاج يطمح أن يكون صانعا لأفلام روائية يعبر فيها عن أفكاره ومشاعره، فإنه قد يجد فرصة الدراسة والعمل فى الخارج لفترة محدودة شيئا إيجابيا، ولكن انتماءه للوطن هنا هو انتماؤه للجماعة التى يمكنه أن يخاطبها بفنه، بينه وبينهم أشياء مشتركة، يمكنهم أن يفهموا نفس النكت وفيهم من قرأوا مثله لنفس الكتاب وشاهدوا نفس الأفلام. ولكن إذا كان الانتماء هو للمحيط الذى يتيح القدر الأكبر من التفاهم والتجمع حول هموم ومشاغل مشتركة، فإن ثورة الاتصالات تساهم فى أن تجعل العديد من الشباب مواطنين عالميين بمعنى ما، بشكل يربطهم معا بأفكار وقيم ومشاغل مشتركة، ويجمعهم فى تذوق نفس الفنون وتبادل نفس المعارف. لا ينكر محمد الحاج أن فيلمه القصير الأول الذى كتب له السينارىو يمكن أن يفهمه شاب مدنى من أى مكان فى العالم بترجمة لغوية بسيطة. وصحيح أنه يعترف أنه يستمتع بالسينما الأمريكية ويفهم تلميحاتها ونكاتها، لكنه يعتقد أن الفن الأمريكى استثناء ربما لأنه أصبح النموذج المهيمن حضاريا، بالإضافة إلى أن الفن المعبر عن المدينة يمكن أن يصبح عالميا. ولكن ذلك ليس إيجابيا فى رأيه، بل هو من مثالب العولمة التى تمارس التنميط على أشكال الحياة لتجعلها مدنا متشابهة وقريبة من نموذج واحد. ولكن أحمد ناجى، الصحفى والروائى الشاب، يرى رأيا آخر معاكسا ضاربا المثل بالأديب التشيكى الشهير ميلان كونديرا الذى غادر وطنه للإقامة فى باريس، بل وتحول إلى الكتابة بالفرنسية بدلا من لغته الأصلية. فى مدونته «وسع خيالك»، كتب ناجى ساخرا أن الوطن ضرورة إنسانية يتمنى أن يتخلص منها التقدم العلمى فى المستقبل. يوضح ناجى فكرته بأن الوطن هو صورة مختلفة عند كل فرد يرسمها من زاوية وضعه الطبقى والاجتماعى. و يقول:« التراث المشترك ليس إلا تراثا تخيليا أو صورة ترسمها مجموعة من الناس وتسميها الوطن». فهو مثلا يرى أن شباب الطبقة الوسطى المثقفين يكونون رموزهم الوطنية من ثقافتهم الخاصة، بينما شباب الحرفيين يكونون رموزهم الوطنية من ثقافتهم المختلفة تماما وخبرتهم اليومية ليحتل فيها منتخب مصر والنادى الأهلى الجانب الأكبر. الحكومة تصدر خطابا وطنيا فيه صور ورموز رسمية، الأهرامات والنيل والقلعة، وصورا تبرز الإنجاز والاستقرار، بينما المعارضة تقلب هذه الصور لتبرز القمع والفقر. ويضيف أحمد ناجى أن التعبير الأصدق عن الوطن الذى يعيشه الإنسان قد نجده فى بعض الفن الشعبى الذى يغنى للمكان المحيط الذى يعيشه الإنسان فعلا وخبراته فيه، ويرى مثالا جيدا لذلك فى أغنية «شبرا وبنات شبرا» لريكو! «المثل بيقول: بلدك إيه يا جحا، قال اللى فيها مراتى» يضحك جابر صبحى، فنى كهربائى، وهو يقول ذلك ساخرا من الحديث عن الانتماء قبل أن تتحول لهجته إلى الجدية: «الصح بقى إن بلدى وبلد مراتى هى اللى فيها رزقى ورزقها. أنا مستعد أروح آخر الدنيا لو فيها شغل كويس وعيشة كويسة، بس برضه هافضل أحب بلدى اللى فيها أهلى وناسى وأحبها تبقى أحسن فى كل حاجة» ويضيف ضاحكا «وهاشجع منتخب مصر برضه، أمال يعنى هاشجع نيجيريا». يستدرك جابر مرة أخرى أن تشجيع الكرة ليس كل شىء لكن على حد تعبيره: «ده اللى موجود دلوقتي، لكن لو قامت حرب يا أستاذ، الشباب اللى مش عاجبهم ده هو اللى بيحارب فى أول صف والناس اللى بتتكلم عن البلد فى التليفزيون والجرايد دول هم بيبقوا المشجعين فى المدرجات ولا مؤاخذة». كل طرف يدافع عن صوره «يشجعها» ويشعر أنه فعلا مرتبط بها. وحتى أحمد ناجى الذى يهاجم بدرجة من العنف فكرة «الوطنية» وتجلياتها فى الفن والثقافة فإنه يكتب فى مدونته موضوعات معظمها ساخر تحت تصنيف «خالتك مصر»- فى سخرية من «مصر هى أمى» - والكتابات الكثيرة والمتنوعة تحت هذا التصنيف مهما كان ما تقوله فهى تقول لنا إن الوطن رغم كل شىء هو ما لم نقرر بعد الهروب منه أو لم نتمكن من ذلك لذا فلا يمكننا أن نتوقف عن الاهتمام به والتفكير فيه، وتخيله فى صورة ما نراها واقعا أو صورة أخرى نراها حلما والانزعاج من صوره التى لا تعجبنا أو حتى السخرية من صوره المتوهمة.