لم يعد أحد, حتي من أكثر فقهاء العلوم السياسية ومحللي السياسة الدولية أو حتي قادة الدول الأخري, يفهم شيئا أو حتي يستطيع ان يفسر ما يحدث بالولايات المتحدة بعد انتخاب ترامب رئيسا لها, فشخصيته مثيرة للجدل من كثرة التناقضات ومسار تاريخه الشخصي والعام وحقيقة ثروته الشخصية ومصدرها ونسبة ذكائه تدور حولها التساؤلات, كل ذلك قد لا يكون مؤثرا فيما كنانعتقده مسبقا من ان أمريكا دولة مؤسسات تحكمها ثوابت دستورية وتاريخية, والمنتخب رئيسا فيها جاء من خلال ترشيح اي الحزبين المعروف سياسات كل منهما وتوجهاته السياسية وأهدافه الداخلية والخارجية, والتي علي أساسها يصوت له الناخب الأمريكي. إلا أن نجاح ترامب في الانتخابات الرئاسية جاء مخالفا تماما لكل التوقعات, حتي ان البعض من رموز حزبه قد أدلوا بأصواتهم لصالح منافسته في الرئاسة هيلاري كلينتون, ورغم ان حملته الانتخابية قامت علي تنفيذ وعود تخالف ما استقرت عليه السياسات الأمريكية السابقة, بل وتخالف الدستور الأمريكي ذاته, مثل تلك التي تعمل علي الحد من المهاجرين الأجانب وتعادي مواطنين لجنسيات دول معينة وتمنع هجرتهم للولايات المتحدة, خاصة بعض الدول الإسلامية والمكسيك التي أعلن وبدأ في تنفيذ سور عازل يمنع الهجرة غير الشرعية منها, رغم أن أمريكا دولة قامت في الأساس ومازالت علي أكتاف المهاجرين, حتي وصل الأمر لقيام مظاهرات داخلية معادية له بعد فوزه تندد بسياسة الفصل العنصري المخالفة للدستور وشيوع أنباء عن احتمال تعرضه لمحاولة اغتيال, اعلن عن فتح صفحة جديدة مع الخصم التقليدي للولايات المتحدة وهي روسيا, الغي المعاهدة المبرمة بين أمريكا وايران بخصوص الحد من برنامجها النووي والتي تم بمقتضاها تخفيف الحصار المضروب عليها, سخن من حدة الخلاف بين أمريكا والصين وكوريا الشمالية لدرجة وصلت لتبادل التهديدات بالغزو المسلح باستخدام الصواريخ النووية, الغي قانون التأمين الصحي الذي سبق أن تبناه سلفه اوباما وحصل علي موافقة الكونجرس عليه. لم تقتصر تناقضات السياسة علي هذا الحد, بل تعداها لحد مناصبة كل حزب منافسيه السياسيين السابقين العداء والنبش في دفاترهم وتبادل الاتهامات الشخصية معهم, لدرجة اتهام أوباما بالتجسس عليه إبان المعركة الرئاسية التي فاز فيها في إحياء لذكريات فضيحة ووترجيت أيام حكم نيكسون, لقد بات معروفا أن كل حزب من الحزبين الكبيرين لم يعد يخفي أن تحقيق مصلحته في تولي الحكم أهم لديه من تحقيق مصلحة أمريكا, وأن يعتمد أسلوب تدمير الحزب المنافس قبل أن يهتم بعلاج أخطائه وتطوير أساليبه وترقية كوادره واكتشاف سبل أفضل للتعامل مع الجماهير والجماعة الناخبة والحصول علي ثقتها, يمكن أن تكون الأحزاب السياسية قد وقعت في بعض هذه الأخطاء في الماضي ولكنها صارت منهجا ثابتا هذه المرة, لأول مرة في امريكا يتم التشكيك في صحة نتائج الانتخابات,وطفت علي السطح اتهامات بالعمالة للخارج,والتعاون مع أعداء البلاد من أجل العبث في نتائج الانتخابات. لقد أصحبت امريكا بالفعل في إدارتها لسياساتها الداخلية والخارجية أشبه بمعظم دول العالم الثالث, لا ثوابت ولا احترام لسياسات سابقة معلنة حازت قوة القانون بموافقة الكونجرس عليها قبل تنفيذها كسياسة الفوضي الهدامة التي نفذتها في منطقة الشرق الأوسط, فالقواعد التي كانت تبدو راسخة,والتي كانت توفر أهم ضمانات الاستقرار في أمريكا,لم تعد تحظي بالرضا والالتزام بين الأطراف الرئيسية المتصارعة علي الحكم,كل ذلك يدعونا للتساؤل هل باتت أمريكا بالفعل دولة من دول العالم الثالث؟.