من نافلة القول أن العامية لم تكن يوما لغة علم, كما لم تكن لغة قانون, وهي خاصة بالثقافة الشعبية, أغانيها وآدابها وفنونها, ولكن لأنها غير معيارية في الغالب فقد ترتفع مرة لمستوي الفصحي وقد تتجاوزها عند بعض المبدعين, وبعض المجالات الإبداعية, لكن قد تنحط أيضا لمستويات غير مقبولة. ولأنها ليست لغة علم ارتبطت العاميات أحيانا بمجالات خرافية كثيرة, واخترفت تعبيراتها الغامضة التي تنافسها, في مجالات السحر والشعوذة والتنجيم, العامي أو المجال العمومي استواء وسطح, في عدم قدرته علي التمييز, وهو أمر مطلوب ومهم في التنظيم والتقنين وحقوق الإنسان بوجه عام, ولكنه أمر خطر في مسائل التعبير واللغة والمعايير والقيم الكلية, ومن الخطورة أن يزيح المبتذل الذي قد يخرج منه أشكال الرقي التي تحققت تاريخا وواقعا عبر عقود أو قرون طويلة. نتطرق لهذا الموضوع ونحن نعاني في بلد ك مصر من ثقافة الزحمة, وتكدس التوكتوك وسيلة المواصلات غير الإنسانية وغير الراقية وغير المقننة في كثير من الأحيان بالمجتمع ككل, لغة وتلوثا سمعيا وانحدارا قيميا صارت تحدده نماذج مرعبة من عبده موتة علي شاشة السينما, إلي صفحات الفيسبوك, إلي أغاني يصفها النقاد بالهبوط ويصفون موسيقاها بالنشاز والقبح, ويتباكي الجميع ممن سينتقدون موقفنا من العاميات والانحطاط المستمر جميعا علي الزمن الجميل, الماضي فصيحا وعاميا معا. لذا نحذر هنا من ثقافة التوكتوك التي تزامنت مع التشظي النيتشوي في مواقع الفيسبوك وتويتر وغيرهما حضورا للعوام ومحاكمة للأفكار ورفضا للغة العليا والقيم العليا والتفافا عليها كما يتكرس في مسار التوكتوك وسائقه في كل منطقة يدخل إليها, وصرت تجد جاهلا يبرر لنفسه دينا ودنيا ما يشاء ويتشفي فيمن يشاء ويعبر في مساحات العالم الافتراضي والحقيقي بما هو فج وخارج دون حساب, فيما هو بات يرصد عالميا من تكريس المواقع التواصلية للفردية المفرطة وخلخلة القيم والمرجعيات بشكل واضح. كان ضروريا إلماحنا لهذا الخطر وتناولنا له ونحن نري نخبا في البرلمان وفي مؤسسات الدولة وغيرها من مؤسسات المجتمع وفي برامج الردح الفضائي, ولا أتكلم عن المحترمة منها, فلكل قاعدة استثناءاتها في كل مجال وكل فضاء وكل ما ذكرت, والتعميم- كما العامية- ليست لغة علم ولا قانون, ينحطون بتعبيراتهم لنفس المستوي ويتعاطون مع غيرهم من مخالفيهم ومعارضيهم ومنتقديهم كما يتعاطي سائق التوكتوك الجاهل مع منافسه علي قارعة الطريق, أو مع سائق سيارة محترم قد يصطدم بكنزه وعرشه المستقل عن كل قانون وكل معيارية. ما أشاهده وأرصده من قضايا مرفوعة علي إعلاميين, وعلي نخب ومن شجارات سياسية المفترض فيها السمو والرقي والبعد عن الانحطاط والمهاترات يكشف أن مرجعية التوكتوك وانحطاط العاميات صار هو السائد وحق علينا جميعا اليقظة والصحوة من هذا الخطر المتمدد والممتد في لاوعي المجتمع عنفا عشوائيا وخطابا عشوائيا وسلوكا عشوائيا وليس فقط مساكن عشوائية. ذات يوم أخبرني صديق متعلم وراق أقام فترة خارج مصر ويزورها من آن لآخر أن ابنه ذا الخمسة عشر عاما أحضره كي يتعاطي مع المجتمع وتركه ينزل للسوبر ماركت المجاور في منطقة راقية فإذا بالفتي الذي يلتزم بلغة شكرا ولو سمحت وميرسي لا يفهم أي كلمة من البائع في السوبر ماركت فعاد لأبيه ولم يشتر شيئا من تعبيرات المستنقع الفوار كل يوم بدلالات جديدة وانحرفت إليه بعض المحسوبين علي النخب وصناع الوعي وكثير من الإعلاميين والكتاب في فضائحية زاعقة تنذر بخسارتنا لجمال ماضينا ومزيد من القبح لحاضرنا ومستقبلنا فقط! اركبوا التوكتوك لكن لا تعتمدوا ثقافته ورموزه..والسلام.