كانت إسرائيل وستبقي العدو التاريخي والاستراتيجي لمصر ولكل العرب, لكونها دولة استعمارية استيطانية تحاول فرض هيمنتها وسطوتها علي جيرانها وسط حالة التشرذم العربي.. ومع هزيمة1967 حدث ما يشبه الصدمة لكل الشباب العربي, ولكن سرعان ما نشأت حالة من عودة الوعي لدي الشعب المصري, لمعرفة العدو الحقيقي بعيدا عن الشعارات والأساطير.. وفي تلك المرحلة كان د. قدري حفني بعمره الذي أشرف علي الثلاثين عاما, يعيش أحلام العروبة والبطولة, التي سرعان ما تبخرت علي دوي الهزيمة الرهيب, وبدأ مرحلة جديدة من حياته, وهي مرحلة التعرف علي قيم التحضر والتقدم, مؤمنا بأن المعرفة فرض عين, والمعرفة قوة, وأنه لا أمل لنا في تقدم ما لم نأخذ بشروط النهضة الحقيقية, من خلال تأصيل قيمة البحث العلمي, وغرسها في عقول الشعب... حفني قامة علمية رفيعة, يدرك الأعداء قدره قبل الأصدقاء, لما توفر لديه من آليات البحث والتنقيب عن قوة عدوه, ووسائل مواجهته, وله رؤي تحليلية صائبة لأمراض المجتمعات, وتحلل القيم, وانهيار القدرات.. سألناه: كيف بدأ الاهتمام بخطورة إسرائيل كعدو تاريخي؟ ومتي بدأت رحلة البحث التي استمرت حتي الآن؟ جاء اهتمامي بالشأن الإسرائيلي بعد1967, وفوجئت بأن معلوماتي عن هذا الكيان المجاور لنا كانت في غاية التواضع, وصدمت كما صدم الكثيرون, فقد اكتشفت أن ما نعلمه عن إسرائيل ليس سوي معلومات تافهة, وزادت صدمتي عندما تأكد لي أن مجموعة من العصابات جاءت إلي أرضنا وأخذوا مننا وطنا كاملا, أحسست بضآلة معلوماتي, وأحسست علي المستوي الشخصي أنني مقصر كيف لم أهتم بهذا الأمر من قبل؟, وعاهدت نفسي منذ يوليو1967 حتي يومنا هذا ألا يمر يوم إلا وأقرأ وأعرف شيئا جديدا عن إسرائيل, لأن المعرفة قوة والمعرفة ضرورة حياتية, فإذا كانت الحرب فرض كفاية, فالمعرفة فرض عين, وبدأت أتحسس طريقي لمعرفة إسرائيل.. وفي هذا الوقت لمت نفسي كثيرا, ثم التمست لنفسي عذرا, لأن معرفة إسرائيل كانت من المحرمات, ونحن نتحدث عن المعرفة بإسرائيل, ولانتحدث عن زيارة إسرائيل, فكان أي كلام كان عن إسرائيل يصادر, وإذا ما عدت بكتاب من لندن أوواشنطن لكاتب إسرائيلي مكتوب باللغة الانجليزية, أوكتاب يتضمن معلومات عن إسرائيل يصادر في المطار, وفي ذات مرة كان أحد كبار علماء الجغرافيا عائدا من الخارج ومعه أطلس غربي, بالطبع الأطلس يتضمن خريطة إسرائيل ضمن خرائط العالم, فتم تمزيق الخريطة, لأنه لا توجد دولة إسمها إسرائيل, غير موجودة أصلا... وأذكر أني كنت في نقاش مع أحد الأصدقاء وكان يشن هجوما شديدا علي اليهود عامة, والإسرائيليين خاصة, ويصفهم بالجبن والخور والضعف, قلت له: العار أكبر إذا ماهزمني ضعيف, والأولي ليأن أقول: هزمني قوي, ولكن أن يهزمني الخائر الضعيف الجبان, فأنا أقل منه!!. وذات يوم جاءتني دعوة في1968 من مكتب الأستاذ محمد حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام, للعمل في مركز الدراسات الصهيونية والإسرائيلية, وبدأت العمل وكانت باكورة انتاج المركز كتابي: تجسيد الوهم, دراسة في السيكولوجية الإسرائيلية.. بعد نشر دراسة السيكولوجية الإسرائيلية, ماذا كان رد الإسرائيليين؟ وهل جاءك مايفيد بأنهم مهتمون بما يكتب عنهم في مصر؟ بعد نشر كتابي الأول تجسيد الوهم الذي تدور فكرته.. أن الكيبوتزات الاسرائيلية كانت تجسيدا لوهم التفوق وأسطورة شعب الله المختار, جاءني صديق كان حاضرا لمؤتمر هلسنكي للسلام, وقال لي الإسرائيليون مهتمون بكتاب تجسيد الوهم, وأتاني بتعليق كتبه باحث إسرائيلي عن الكتاب يذكر فيه إسم الكتاب وموضوعه, وأن كاتبه غير معروف, وغالبا هو كتاب أصدرته المخابرات المصرية, ومن خلال الكتاب كان الكثير من الأصدقاء الفلسطينيون يقولون لي: أننا نري إسرائيل لأول مرة من خلال الكتاب. لكن هل اهتمامنا بدراسة إسرائيل علميا كان كافيا؟ وهل الدراسات التي أجريت علي المجتمع الإسرائيلي كافية لتعريفنا بحقيقة وطبيعة هذا المجتمع, خاصة وهم يعلمون عنا كل شئ, أكثر مما نعرف نحن عن أنفسنا؟ في الثمانينيات قمنا في كلية آداب عين شمس برصد كل الرسائل الجامعية التي كان موضوعها الصراع العربي الإسرائيلي, حتي نري مدي حجم اهتمام العقل الأكاديمي المصري بهذه القضية المصيرية؟, ووجدنا أن ماتم انتاجه لايتوازي مع أهمية القضية, وبالمسح الشامل وجدنا أن كل ما أنتج لا يتعدي ال600 رسالة جامعية, فكانت النتيجة صادمة, ولا أظن أن الأمر تغير كثيرا لأسباب موضوعية كثيرة. في المقابل.. ما هو مدي الاهتمام الإسرائيلي بدراسة المجتمع المصري والمجتمعات العربية؟ ألمس هذا الجانب وبقوة, فهم يأخذوننا بجدية شديدة, ونحن نأخذهم بإستهانة شديدة من ناحية الفكر, هم يرصدون بدقة كل ما يكتب عنهم ويحللونه وينبشون ورائه, وأنا لا أظن أنه لدينا مثل هذا الحجم من الإهتمام بهم مثل اهتمامهم بنا, ربما يكون الإهتمام أكبر لدي مجتمع المخابرات, لكن ما أتحدث عنه هو المجتمع الأكاديمي. في ظل حالة عدم التوازن في الصراع العربي الإسرائيلي الذي تحرز فيه إسرائيل كل يوم نصرا جديدا بدون أن تطلق رصاصة واحدة, لا لشئ, إلا بسبب فرقة العرب.. ألا تري من حلول متجاوزة نستطيع من خلالها إعادة الثقة للمواطن العربي في إحياء هذا الصراع وإعادته لصالحه من جديد؟ مع ظهيرة الخامس من يونيو1967 انهارت آمال جيلي في كل شيء لقد أصبح الجيش الإسرائيلي علي ضفة قناة السويس, ولم يعد مجال لحديث سوي عن التحرير. وفهمنا أن القوة تعني القوة العسكرية, وأن البندقية هي السبيل الوحيد لاستعادة الحقوق المغتصبة, لم نكن آنذاك نستطيع استيعاب حقيقتين أساسيتين: الأولي أن إسرائيل لم تتمكن من هزيمتنا بالسلاح فقط, بل كان خلف وأمام ذلك السلاح بنية علمية متقدمة حملها من الغرب جيل الرواد كفل لهم تقدما في العلوم الطبيعية والاجتماعية علي حد سواء وفي تطبيقاتها العملية في مجالات الزراعة والطب والتسلح والتفاوض والإدارة والتخطيط والحرب النفسية إلي آخره.الحقيقة الثانية أنه فيما يتعلق بالسلاح فلابد أن يكون من انتاجنا دون الاعتماد كلية علي أي من القوي العالمية, لأنه بالنسبة للسلاح المستورد فإن الحصول عليه يظل رهنا بإرادة صناعه ومنتجيه.ولكن مع الاستيعاب العسير لهاتين الحقيقتين, شهدنا ثلاث مفاجآت: فاجأ الفلسطينيون العالم في ديسمبر1987 بتطوير سلاح مبتكر شديد الفعالية هو الحجارة التي لا تحتاج إلي استيراد ولا اتفاقيات تسليح, واستمرت انتفاضة الحجارة حتي توقيع اتفاقية أوسلو1993. كانت مفاجأة انتصارنا في أكتوبر1973 تجسيدا لأهمية اتباع المنهج العلمي في التخطيط والتدريب وتقدير موازين القوي الإقليمية والعالمية وإتقان آليات الحرب النفسية والتفاوض إلي آخره.وجاءت مفاجأة ثورة25 يناير التي اعتمدت سلاحا مبتكرا هو الهجوم الجماهيري السلمي المكثف, الذي أثبت عمليا أنه الأكثر فعالية من محاولات إسقاط النظام بالعنف المسلح التي تبناها الكثيرون لحقبة طويلة.ما أريد أن أنتهي إليه للإجابة علي سؤالك لإعادة الأمل بالحلول المتجاوزة في الصراع العربي الإسرائيلي, وهذا ممكن أيضا: الانتصار علي نظم الحكم الدكتاتورية, وقوي الاحتلال بأشكاله, في عصر يسوده احتكار إنتاج الأسلحة, يكمن أساسا في آليتين: التفوق العلمي والسلام الهجومي. قيادة الكيان الصهيوني قد لا تشعر بتهديد حقيقي حين تكتفي مصر بإعلان أنها عربية أو إسلامية أو اشتراكية أو رأسمالية أو ديمقراطية أو دكتاتورية أو حتي فرعونية أو علمانية, ولاترتجف أوصال القادة الصهاينة حتي لو ادعو ذلك لمظاهرات تندد بإجرامهم وتحرق أعلامهم, أو لصاروخ ينطلق من هنا أو هناك, طالما استمر تخلفنا العلمي والإداري, وطالما ظللنا بعيدين عن استيعاب حقائق العصر في أساليب الصراع. إن مايزعج العدو حقا أيا كان هذا العدو هو أن تصبح شوارعنا نظيفة ومصانعنا تعمل وعلماؤنا ينافسون نظراءهم في مجالات العلم الطبيعي والاجتماعي.ولكن تري هل يتركوننا لتحقيق ذلك؟ هذا ما أريد توضيحه, فمن واقع الحال لاأتصورأن يترك تجار السلاح وقادة النظم العنصرية الدكتاتورية الأفق مفتوحا أمام تطوير تلك الأسلحة الجماهيرية الجديدة التي تكفل حماية حقيقية لتحرر وتطور المجتمعات المقهورة؟ هل يتركون القنوات مفتوحة لتبادل خبرات التمرد المدني ومهارات السلام الهجومي؟ أظننا نكون واهمين لو حسبنا الأمر كذلك, فثمة معركة عالمية شرسة تدور منذ عقود بين القوي العملاقة لتجار السلاح والمحاولات الحثيثة للتدريب علي السلام الهجومي والتي وجدت اخيرا ملاذا لها من شبكات التواصل الاجتماعي ماهو موقف علماء النفس المصريين من السلطة؟ إذا نظرنا لموقف علماء النفس حسبما درستهم من حيث موقفهم من السلطة, وبالتحديد موقفهم من ثورة23 يوليو, انقسم علماء النفس المصريين إلي فريقين, فريق رأي فيها الخير كل الخير, ومنهم من كان متحفظا, الدكتور القباني وهو من الرواد كانت له علاقة وثيقة جدا مع كمال الدين حسين أحد الضباط الأحرار ووزير التعليم الأسبق, الدكتور يوسف مراد كان علي علاقة جيدة بالجيش, الدكتور مصطفي زيوار كان متحفظا, وكذلك الدكتور مصطفي سويف, فكانت العلاقات متباينة, لكن هل انعكس ذلك علي أدائهم كعلماء, أقول لا, فهم كعلماء بقيت لهم استقلاليتهم والتزامهم تجاه وطنهم. كيف تنظر لما حدث للمصريين خلال التغيرات الشديدة التي حدثت خلال العشرين عاما الماضية؟ هذا سؤال تصعب الإجابة عليه, وأنا رؤيتي كعالم لعلم النفس أري أن المجتمع المصري يتقدم ولكن ببطء من خلال تقدم العالم كله من حوله, فأحوالنا اليوم أفضل من أحوالنا من خمسين عاما, وقد لا يوافق الجميع علي ذلك, ويقول زمان كانت الحياة أفضل, والسلع أرخص والحياة أكثر راحة, لكن حينما نتحدث بموضوعية, مطلوب الإجابة علي عدد من الأسئلة وتقديم بعض الإحصاءات الإضافية المقارنة بين الماضي والحاضر بالنسبة لعدد من المجالات مثل: هل زادت أم قلت النسبة المئوية لمن يمتلكون ثلاجات منزلية خاصة في الريف؟ إن امتلاك المواطن لثلاجة يعني وصول الكهرباء إلي منزله, وأنه لا يتناول طعامه وجبة بوجبة, ومن ثم فالمتوقع أن تكون تلك النسبة آخذة في الانخفاض.. هل زاد أم قل متوسط أعمار المصريين؟ وما مدي صحة ما يتردد من أنه في الثمانينيات كان متوسط الأعمار يدور في منطقة الخمسينيات من العمر, والآن ارتفع هذا المتوسط إلي73 سنة متوسط عمر المرأة, و69 سنة متوسط عمر الرجل في ضوء أن زيادة متوسط العمر تعد مؤشرا علي تحسن نوعية الحياة, ومن ثم فالمتوقع أن يكون ذلك المتوسط آخذا في الانخفاض. هل زادت أم قلت النسبة المئوية لمن يمتلكون سيارات خاصة صغيرة؟ علما بأن تلك السيارات الصغيرة ليست المفضلة لدي الأغنياء, كما أنها تفوق قدرة الفقراء, ولذلك فمن ثم فالمتوقع أن تكون تلك النسبة آخذة في الانخفاض. هل زادت أم قلت النسبة المئوية لمن يمتلكون المحمول في السنوات الأخيرة خاصة في الريف؟, ويسري ذلك بطبيعة الحال علي النسبة المئوية لمن يمتلكون الأطباق اللاقطة للقنوات الفضائية؟ ومن ثم فالمتوقع أن تكون تلك النسب آخذة في الانخفاض. هل زادت أم قلت النسبة المئوية للملتحقين بالمدارس الخاصة؟ أم أن الفقراء يسربون أبناءهم من التعليم ويدفعون بهم إلي سوق العمل؟ ومن ثم فالمتوقع أن تكون تلك النسبة آخذة في الانخفاض.خلاصة القول إن العلم الاجتماعي الصحيح لا يقوم إلا علي المقارنات بنوعيها: مقارنة الأقران لتحديد الفجوة المطلوب عبورها, ومقارنة الحاضر بالماضي لتحديد وجهة الحركة لاتخاذ القرار المناسب لتسريعها أو لتعديل مسارها. كيف تري الشخصية المصرية من وجهة نظر عالم النفس؟ إذا تكلمنا عن المصريين نجد أنهم عبر عدة قرون يتقنون عدة آليات, منها إخفاء ما يضمرونه, وأنهم يقولون لمن يتكلم معهم ما يريد سماعه, لا مايجب أن يقولونه من حقائق, هذه التركيبة غير مألوفة بالمرة, وأتصور أن دراساتنا القائمة علي الاستمارة والرصد لاتأتي بنتائج دقيقة, ولهذا من الصعب رصد دقة كل الاحصائيات, ومن يقول أنه يفهم الشعب المصري مسألة فيها رد, والاجابة عليي سؤال: كيف يفكر المصريين؟ مسألة في غاية الصعوبة. لكن ماذا تقول عن تغير القيم في المجتمع المصري الآن؟ كل جيل يقول كنا زمان أفضل, فهل كنا مؤدبين وأصبحنا غير مؤدبين؟ الفارق عندنا أنه مع وجود الانترنت وكثرة الاحتكاكات اليومية في الشارع وعلي صفحات الانترنت وكثرت آليات التسجيل من فيسبوك ويوتيوب وصحف وقنوات أن أصبح كل شيء مسجلا وبكثرة, فهل هذا تعبير عن انهيار القيم؟ أنا أقول الاب فمازال عندنا قيم, وأقول هناك حدة في المجتمع, أستطيع أن أستنتج ذلك, وإذا لم تكن هناك حدة في المجتمع, فهو في هذه الظروف مجتمع غير طبيعي, لازم نتوقع أن تكون لها استجابات من دون أن أراها, ولابد من توافر المعلومات حتي نعلم في أي اتجاه نسير, الإتجاه الصح أم ألخطأ؟ لو تعرضنا مثلا لقضية العنف, حتي1987 كان هناك تقرير الأمن العام التي تصدره وزارة الداخلية وتوزعه علي الصحف, هذا التقرير توقف توزيعه, وكان هذا التقرير محاولة لقياس حالة العنف في المجتمع, وفي ظل حجب المعلومات لم نعد نعرف مدي انجراف المجتمع للعنف, لم نعد نعرف عدد المنحرفين, زاد أم قل؟ حتي أعداد المسيحيين لا أحد يعرفه, وفي ظل حالة التعتيم المعلوماتي يعطي الفرصة لأي جهة أو شخص ليقول أي رقم.. هنا مشكلة حقيقية. وفي رأيي أن القيم في مصر ثابتة لأن عددنا أصبح كبيرا جدا, ووسائل الإعلام تركز اهتمامها علي كل ما هو شاذ وسلبي, والكلام عن أن أخلاق المصريين تتدهور, لا يوجد دليل علمي علي ذلك.