يزعم البعض أن تخلف المجتمع المصري في العديد من المجالات يعود في المقام الأول إلي ضعف الإمكانيات المادية وضيق الوقت.. ولكن هذا زعم يجانبه الصواب ويغلفه الافتراء.. فلو عدنا بالذاكرة الي سنوات ليست بالبعيدة لوجدنا ان جودة التعليم والمناهج الدراسية كانتا علي رأس اهتمامات الدولة والأسرة.. كما أن المدرسين والأساتذة كانوا علي علم مهني بالمواد الدراسية شكلا وموضوعا.. وعلي خلق تربوي يتجاوز حرص الآباء والمهمات علي تنشئة سوية مستقيمة للأبناء. لم نر أو نسمع عن تعدي المدرس علي الطالب.. أو تحرش التلميذ بالمعلمة.. أو تدخين صغار الصبية الشيشة بدورات المياه أو الحشيش مع عم محمد الفراش قبل أن يدق جرس الحصة الأولي. فغياب الرقابة التعليمية عن المناهج والمدارس ونقل الأنشطة الفنية والثقافية والرياضية إلي نوادي المقتدرين وإخماد جذوة الانتماء للمجتمع الدراسي ثم الجامعي وأخيرا للوطن.. كل ذلك أدي إلي هشاشة حال المجتمع المصري. فظهرت بذور شيطانية ترعرعت في بيئة جديدة.. أثمرت بدورها المسئول المرتشي.. والموظف المستهتر.. والعامل الفاشل.. والطبيب الفاسد.. والمهندس الجاهل. ولا يشترك كل هؤلاء إلا في تربية أسرية غير سوية.. وضمير غائب أو دعوة المقابر قبل الانتقال إليها بأجساد سيواريها التراب مخلفة ذكري عفنة وأبناء أشقياء. إذن الحل لا يكمن في العقاب البدني الذي نادي به أحد وزراء التربية والتعليم في أحد مؤتمراته الصحفية المثيرة للجدل داخل وخارج مصر.. ولكن حمدا لله سرعان ما تراجع عن تعليماته بعدما أدرك أن العنف لا يولد إلا عنفا مضادا أكثر عدوانية وإيذاء. فالتلاميذ يحتاجون الي التوجيه والنصح والارشاد.. وليس الي القمع والإرهاب. فهم يلتمسون التشجيع والتقدير مخافة التسفيه والتحقير علي مرمي ومسمع من أقرانهم. كما أن ظلال هذا العنف البدني والنفسي تترسخ في أعماق النفس لتؤثر سلبيا علي شخصية الطالب وسلوكه منذ نشأته الأولي.. في حالة عدم هروبه من التعليم الإلزامي.. مرورا بالمرحلة الجامعية.. وانتهاء بوظيفة حكومية أو في القطاع الخاص. وفي المقابل.. لا تتطلب الحكمة التساهل في تصحيح امتحانات نهاية العام في المراحل الدراسية المختلفة.. والتغاضي عن حوادث الغش الجماعي في المدن والأقاليم.. حتي أن أحد الوزراء لقب لهذا السبب تحديدا بالوزير الأب وللأسف لسنوات طويلة. وكان المدرسون.. بل والمتخصصون من المسئولين يتناقلون آنذاك قصصا لا تنم إلا عن فساد ينخر في عظام العملية التعليمية.. بدءا من كيفية اختيار مناهج الكتاب المدرسي.. ومرورا بتصحيح امتحانات الثانوية العامة.. وانتهاء بضغط أولياء الأمور علي الرأي العام لتطبيق ما يخالف مبادئ وآليات جودة التعليم لصناع مستقبل هذا البلد. أما آن الأوان أن نراجع سياساتنا التعليمية الخاطئة.. قبل أن نتحول إلي مورد من الدرجة الأولي لقضايا فساد ورشوة وتربح غير مشروع لأجهزة الدولة الرقابية؟.