تثور مرة أخري هذه القضية الخطيرة.. وهي هل المحاماة مهنة حرفية يجب علي المحامي أن يدافع فيها عن موكله أيا كان نوع جرائمه؟ أم أنه يدافع فقط عمن يعتبر أنه مظلوم؟ بعبارة أخري ما نوع القضايا التي يمتنع فيها المحامي أخلاقيا عن الترافع فيها؟ من الناحية الأخلاقية البحتة لا يجوز للمحامي أن يدافع عن باطل ضد حق, حتي لو علم الحقيقة من الموكل, فإذا كان قاتلا أو ظالما أو مغتصبا لحق أو نحوه فلا يستساغ أن يأخذ المحامي أتعابه ليؤكد الباطل وينصره علي حساب الحق, وإنما إذا كان الحق والباطل ملتبسين أو كانت حقوقا متقابلة فلا تثريب عليه, ومعني ذلك أن المحامي يضع نفسه موضع القاضي قبل أن يقبل القضية التي يوكل فيها. أما القضايا التي يكون فيها الضرر ظاهرا ضد الأخلاق والمجتمع بأسره, بل الوطن, مثل قضايا المخدرات, ونهب المال العام, والخطايا السياسية, خاصة بعد سقوط النظام الآثم, فلا أظن أن المحامي يستطيع أن يبرر دفاعه عن قتلة هذا الشعب, ومغتصبي حقوقه. وتطبيقا لذلك فإنه من الخطأ الدفاع عن المتهمين في عقد مدينتي بعد أن فصل القضاء مظاهر الفساد فيه, كما لا يجوز الدفاع عن رموز النظام السابق الذين استوردوا الأطعمة المسمومة أو سمموا التربة أو قتلوا الشباب في الثورة أو اشتركوا في إفساد العقل والحياة السياسية والثقافية والسياسة الخارجية, أو نهبوا المال العام. والحق أن تحضير مثل هذه القضايا لابد أن يخضع لعملية تقمصsimulation حتي تستجلي الحقيقية من جانبين هما توافر الدافع الإجرامي, أو النية الإجرامية, ويكفي لتوافرها أن يدرك الفاعل أنه يضيع فرصة, أو يهدر مصلحة, أو يلحق ضررا ملموسا, والجانب الثاني أن يكون الفعل مجرما, وأن تتم نسبته إليه بالفعل, ولو بأدلة تم تدميرها لكنها افتراضية. فلو مثل الرئيس السابق أمام القضاء فمن المتصور أن يوجه الاتهام الأول إليه, وهو أنه رئيس الدولة المسئول عن كل خطيئة ارتكبها نظامه حتي لو لم يصدر تعليمات مكتوبة بارتكاب هذه الخطايا علي النحو الذي يتم تقاذفه الآن بين رموز النظام المتهمين بارتكاب هذه الجرائم, فيحيل وزير الداخلية الأسبق تهمة القتل العمد إلي الرئيس السابق تارة, وإلي مساعديه تارة أخري, كما يحيل المساعدون إلي رئيسهم الوزير بحسبان أن المساعد لم يتجاوز صلاحياته, وأن له الحق في الأمر بالقتل وفق القانون القائم, أو اللوائح والتعليمات. علي كل حال فمن المتصور أن يكون الآلاف في جميع المجالات مطلوبين للمحاكمة, وسوف تزدهر أسواق المحاماة, وسوف يدق معيار قبول الدعاوي. ويبقي السؤال: إذا كانت القاعدة هي أن المتهم بريء حتي تثبت إدانته, وأن من حق المتهم أن يتم الدفاع عنه, فمن سيكون محامي هؤلاء القوم؟ المحاماة رسالة وليست مهنة, وعلينا أن نغلب الرسالة علي المهنة في القضايا الحساسة.