كان موقفي الدائم منذ الخامس عشر من فبراير الماضي هو أن الثورة المصرية نجحت في خلال ثمانية عشر يوما في تحقيق مالم ينجح فيه المصلحون المصريون طوال ثلاثين عاما من المحاولات لتنمية مصر ووصولها إلي العصر الديمقراطي القائم علي سيادة القانون. واحترام حقوق الإنسان كما جاء في العهود والمواثيق الدولية. وكلما جري الحديث داخل الثورة وبين أركانها عن الدستور الجديد, والانتخابات النزيهة, وذهب المصريون الي صناديق الاقتراع من أجل تعديلات دستورية طالما نادينا بها طوال السنوات الماضية كان ذلك كله مريحا للصدر ودافعا للهمة. ولكن الشعارات الكبري مثل الحرية والمساواة والعدالة وسيادة القانون وتداول السلطة واحترام الأقلية لرأي الأغلبية تظل ذات قيمة تاريخية حتي يتم اختبارها في الواقع وساعتها يتم تقدير ليس فقط نجاحها, وإنما أيضا مدي الإيمان الفعلي بها بين من ينادون بها, وهل هم حقا مخلصون لما جاء فيها من معان, أو أنهم علي استعداد للي المعاني والقفز فوق النصوص وعندما لايوجد سبب للتأويلات الخاطئة يجري الدفع بما فعله نظام سابق من مظالم جاءت أو قامت الثورة أساسا لكي تتجاوزها. مظاهرة يوم الجمعة الماضي المليونية كانت لها مطالب ومواضيع كثيرة يصعب تناولها كلها. وماجري في نهايتها من صدام ربما صرف الأنظار عن جوهر ماقيل فيها والذي كان حول محاكمة الرئيس السابق محمد حسني مبارك. وكما هو معروف أنه جرت محاكمة شعبية للرئيس بالفعل لم يكن فيها دفاع عنه ولذا تم تأجيل الحكم, ولكن كما هو معروف فإن هذه محاكمة سياسية شعبية يعرف كل من كان في ميدان التحرير أنها ليست بديلا عن المحاكمة القانونية التي تجريها محاكم مختصة بهذا الأمر وجرت المطالبة بها في ميدان التحرير قبل وبعد ذهاب الرئيس السابق الي مدينة شرم الشيخ. وللحق فإن الأجهزة المختصة للنائب العام بدأت بالفعل في عمليات جمع الأدلة والوثائق الخاصة بالرئيس السابق وحصر ممتلكاته وأمواله. ومن ناحية أخري فإن الرئيس السابق حاول الدفاع عن نفسه من خلال محام يقوم بهذه المهمة طبقا لتقاليد القوانين والدساتير المصرية التي اتفقت جميعها من أول دستور عام1923 وحتي عام1971 علي ضرورة وجود محام للمتهم يساعده في عملية الدفاع ويأخذ بيده بين دروب القوانين المختلفة. وفي الدستور الأخير لمصر أفرد للسلطة القضائية الباب الرابع الذي جاء فيه: (المادة64) سيادة القانون أساس الحكم في الدولة. (المادة65) تخضع الدولة للقانون, واستقلال القضاء وحصانته ضمانان أساسيان لحماية الحقوق والحريات (المادة66) العقوبة شخصية, ولاجريمة ولا عقوبة إلا بناء علي قانون ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي ولا عقاب إلا علي الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون. (المادة67) المتهم بريءحتي تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه. وكل متهم في جناية يجب أن يكون له محام يدافع عنه (المادة68) التقاضي حق مصون ومكفول للناس جميعا ولكل مواطن حق الالتجاء الي قاضيه الطبيعي, وتكفل الدولة تقريب جهات القضاء من المتقاضين وسرعة الفصل في القضايا ويحظر النص في القوانين علي تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء ( المادة69) حق الدفاع أصالة أو بالوكالة مكفول. ويكفل القانون لغير القادرين ماليا وسائل الالتجاء الي القضاء والدفاع عن حقوقهم. (المادة70) لاتقام الدعوي الجنائية إلا بأمر من جهة قضائية, فيما عدا الأحوال التي يحددها القانون ( المادة71) يبلغ كل من يقبض عليه أو يعتقل بأسباب القبض عليه أو اعتقاله فورا, ويكون له حق الاتصال بمن يري إبلاغه بما وقع أو الاستعانة به علي الوجه الذي ينظمه القانون, ويجب إعلانه علي وجه السرعة بالتهم الموجهة اليه, وله ولغيره التظلم أمام القضاء من الإجراء الذي قيد حريته الشخصية وينظم القانون حق التظلم بما يكفل الفصل فيه خلال مدة محددة وإلا وجب الإفراج حتما. المعضلة هنا أنه كما لم يوجد محام للدفاع عن المتهم في ميدان التحرير, رفض جميع المحامين المصريين الدفاع عن الرجل أمام المحكمة الطبيعية. مثل هذا الموقف سوف يكون حكم التاريخ عليه قاسيا لأن الدفاع عن المتهمين هو واجب مقدس أقسم عليه المحامون كما أقسم الأطباء علي القيام بواجباتهم إزاء أي مريض مهما كانت حالته, مجرما كان أو قديسا. ولكن النتيجة التي أعلن عنها هي أن المتهم الرئيس السابق حسني مبارك قرر كما جاء في الصحف أن يستعين بخمسة من المحامين الإنجليز للدفاع عنه بعدما لم يجد محاميا في مصر يقوم بالمهمة. ولا أدري شخصيا ما إذا كان وجود محامين أجانب مسموحا به في هذه الحالة أم لا, أما إذا كان مسموحا فإننا سوف نصبح أمام محاكمة دولية بامتياز يقف العالم فيها علي أطراف أصابعه لكي يقيم المحامين المصريين, والعدالة المصرية في العموم والحد الذي وصلت اليه الثورة المصرية في قبول سيادة القانون, والتقاليد الحقوقية في الدفاع والحكم بل إن ذلك سوف يضع جميع المرشحين المصريين لرئاسة الجمهورية, والمنظمات الحقوقية المصرية, والأحزاب السياسية خاصة الليبرالية منها, موضع الاختبار. هنا فإن السؤال الطبيعي الذي سوف يسأله المحامون القادمون من لندن هو: ما هو القانون الذي علي أساسه سوف تتم عملية محاكمة رئيس الجمهورية السابق؟ فما جري من جرائم اتهم بها الرئيس السابق جرت أثناء وجود الدستور الدائم لعام1971 مع تعديلاته المختلفة. ووضع هذا الدستور طريقة خاصة لمحاكمة رئيس الجمهورية علي الوجه التالي: المادة(85) يكون اتهام رئيس الجمهورية بالخيانة العظمي أم بارتكاب جريمة جنائية بناء علي اقتراح مقدم من ثلث أعضاء مجلس الشعب علي الأقل, ولا يصدر قرار الاتهام إلا بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس. ويوقف رئيس الجمهورية عن عمله بمجرد صدور قرار الاتهام, ويتولي الرئاسة مؤقتا نائب رئيس الجمهورية أو رئيس مجلس الوزراء عند عدم وجود نائب لرئيس الجمهورية أو تعذر نيابته عنه.. وذلك لحين الفصل في الاتهام. وتكون محاكمة رئيس الجمهورية أمام محكمة خاصة ينظم القانون تشكيلها وإجراءات المحاكمة أمامها ويحجج العقاب. وإذا حكم بإدانته أعفي من منصبه مع عدم الإخلال بالعقوبات الأخري. المادة هكذا غير قابلة للتطبيق لأنه جري حل مجلس الشعب, ومن ثم لم يعد ممكنا توفير لا الثلث اللازم لتقديم الاقتراح بتوجيه الاتهام, ولا ثلثا الأعضاء اللازمين لتوجيهه, ومن ثم فإنه سيصير علي المحكمة إما أن تطلب الانتظار حتي تتم انتخابات مجلس الشعب, ويصدر قانونا لمحاكمة الرؤساء السابقين أو يطبق القانون العادي علي الرئيس السابق باعتباره بات مواطنا عاديا. ولكن الأمر هنا لا يسلم من مشاكل قانونية أخري حيث إن جل التهم الموجهة للرئيس جرت وقت أن كان رئيسا للجمهورية. فهل يجوز تطبيق قانون آخر علي أفعال كانت تجري وفق قانون سابق قام في الأساس لمنع رئيس الجمهورية من استغلال نفوذه أو التعدي علي حقوق الوطن بالخيانة العظمي أو حقوق المواطنين بالجرائم الجنائية؟!. لاحظ هنا أن كل ما تقدم له علاقة بالشكل فقط, أما ما له علاقة بالمضمون فربما لن يقل تعقيدا إن لم يزد, فقائمة الاتهامات الشعبية الثورية للرئيس السابق طويلة للغاية, ولكن تكييفها القانوني سوف يحتاج اجتهادات كثيرة حتي يمكن الرد علي دفوع المحامين الإنجليز في المحكمة تقوم في كثير منها علي أنه لايجوز منطقيا علي الأقل محاكمة الرئيس كمواطن عادي علي جرائم مثل استغلال النفوذ والتربح بينما كان ارتكابها وقت أن كان رئيسا للجمهورية بل أن جوهر الجريمة هي هكذا لأنها خالفت الدستور الذي لايقر في المادة(80) أن يتقاضي رئيس الجمهورية مرتبا أو مكافأة أخري غير تلك التي يحددها القانون. كما لايجوز في المادة(81) لرئيس الجمهورية أثناء مدة رئاسته أن يزاول مهنة حرة أو عملا تجاريا أو ماليا أو صناعيا أو أن يشتري أو يستأجر شيئا من أموال الدولة أو يؤجرها أو يبيعها شيئا من أمواله أو يقايضها عليه. هنا فإن الرئيس يدان فقط إذا كان رئيسا تطبق عليه المواد المحددة في الدستور, أما إذا كان مواطنا عاديا فإن قوانين أخري للكسب والعمل التجاري أو الصناعي تصبح هي الموضوع الذي ينقلنا إلي مستوي آخر من التقاضي. وعلي أي الأحوال فإن الاجتهاد في الأمر كله واجب, وأظن أن ذلك ما سوف يفعله الثوار, والقضاة والمحامون منهم خاصة, وكذلك سوف يفعل المحامون الإنجليز, وسوف يشهد العالم كله مشهد سيادة القانون في مصر. الشعب يثق في أن ثورة يناير سوف تقدم من معايير العدالة ما سوف يشهد له العالم أجمع سواء كانوا من الإنجليز أو من غيرهم. سوف تكون العدالة المصرية في أبهي حللها. [email protected]