لم يأخذ الراحل أنور العسكري حقه كصاحب مدرسة في غناء الليل والموال, لعدم معرفه الجيل الذي ولد في سبعينيات القرن الماضي به, بل ربما لا يتذكره من كانوا قبل ذلك,ويرجع هذا لعدم وجود وسائل الاتصال الحديثة التي أحدثت ثورة فمنحت شهرة لمن لا يستحق, وصدرت لنا أصواتا ما أنزل الله بها من سلطان,وساعدت علي انتشار معدومي الموهبة. يعد أنور العسكري واحدا من رواد الأغنية الشعبية وعمودا من أعمدة الموال في فترة الستينات من القرن الماضي مرورا بالسبعينيات وتتلمذ علي صوته وأدائه العديد من مطربي الأغنية الشعبية في مصر والعالم العربي. حتي منتصف حقبة الستينيات كانت الطريقة السائدة لغناء الموال في الأحياء الشعبية أن يجلس المغني أو الصييت علي إحدي الترابيزات بينما يجلس علي ترابيزة أمامه صييت آخر دون أن تصاحبهما آلة موسيقية للعزف,ويجلس إلي جوار كل منهما محبوه وعشاق فنه, هذا يبدأ بأغنية أو موال و يرد الآخر عليه, وقد تتطور الأمور بعدما تسخن الليلة فيهجو كل منهما الآخر غنائيا ويستمر الحال هكذا حتي تباشير الصباح, في هذه الأثناء بدأ يظهر اسم أنور العسكري الشهير بأبو نادية وكان يعمل عسكري بالداخلية آنذاك,وكان لديه محل مكوجي- وهو العامل المشترك بينه وبين شعبان عبدالرحيم أحد مريديه- وكان يهوي هذا النوع من الغناء البلدي دون أن تصاحبه الموسيقي, وبدأ بكتابة كلمات أغانيه ومواويله ووضع ألحانها.. وكان ينافس العسكري في تلك الفترة صييت يدعي عباس غرام أو عباس بتاع الجاز وكان يمتهن مهنة بيع الكيروسين, غير أن العسكري كان صاحب الكعب الأعلي والامكانات الأقوي, وكان يغني علي رتم قاعد أي بطيء, في هذا التوقيت كان المخرج الراحل فايز حلاوة يعد لمسرحية قهوة التوتة ويريد تجسيد ما يحدث في الأفراح الشعبية علي خشبة المسرح فاستعان به للغناء في المسرحية وحقق نجاحا لافتا للنظر, بعدها كانت الإذاعة تستعد لتقديم مسلسل إذاعي يصور هذا الجو البلدي فبحث المخرج عن أبو نادية مؤكدا عليه ضرورة الاستعانة بفرقة موسيقية, فاختار العسكري مجموعة عازفين ممن يحفظون لونه وطريقة غنائه, ومن أبرز الآلات التي استعان بها الاكورديون الذي لم يكن قد أضيف إليه آنذاك الربع تون الذي يعطي المذاق الشرقي, وحققت الإذاعة شهرة عريضة لأنور العسكري عند غنائه لتتر مقدمة ونهاية المسلسل والتي غني فيها لما الإله العظيم خلق م التراب آدم.. ونفخ في صورته وقال له اسمعني يا بني آدم.. أنظر وشوف حكمتي في جنس بني آدم. ونجح المسلسل وظهر للعسكري منتج بدأ يسجل له اسطوانات, وحققت اسطوانته التي غني فيها غزالة مع الدلال مبيعات لم يألفها سوق الاسطوانات من قبل,وأصبح مطلوبا في الأفراح الشعبية بشكل أكثر, وتحول إلي تقديم نمرة فقرة غنائية لا تتعدي الساعة بعد ما كان يغني طوال الليل في فرح واحد يبدأه ويختتمه. ومع نجاح أنور العسكري بدأت تظهر له مدرسة تخرج فيها عدد ليس بالقليل ممن ظهروا بعده مثل أحمد عدوية والراحل عبده الاسكندراني وشعبان عبدالرحيم وعبدالباسط حمودة. وأنا أستمع قبل أيام لما يشبه الموال في زمن الفضائيات مدفوعة الأجر, لصوت لا تفك طلاسم شفرته إلا بالكاد,ولحن مسروق, وكلمات مكررة, ترحمت علي أنور العسكري وتذكرته ورفاقه أصحاب الأصوات الشجية الندية عندما كان ما يقدموه من فن مستاق من الحكم والأمثال والموروث الشعبي الأصيل الذي يدور في فلك مكارم الأخلاق من المروءة والصدق والكرم وبر الوالدين ورعاية الأب لأسرته والصديق المخلص,وحفظ اللسان ومعاونة الجار والوقوف إلي جواره وقت المحن والشدائد..انقرض فن الموال الشعبي فانقرضت معه أخلاق أولاد البلد.