صراخ.. أصوات متداخلة بكاء ونحيب.. عويل.. صرخة مدوية مفاجئة تصم الآذان عراك مع سائق ميكروباص أو تاكسي, والغالب انه مع احد المواطنين.. ولكن سرعان ما تألف أذنك وعيناك المآسي والآلام المتجسدة في أشباه الناس الذين تراهم... إنك في ميدان ابن النفيس بحي الكيت كات بمنطقة امبابة أمام معهد القلب القومي المستشفي الوحيد الذي تتراص أرائك استراحة المرضي علي الأرصفة من حوله لتمر بينها السيارات باتجاهين في نهر الطريق بشكل لافت, ناهيك عن عربات الكشري.. والمأكولات الجاهزة الملتصقة بأسفلت الشارع أمام بوابة الاستقبال وبنك الدم التابع للمستشفي الذي يحتاج لمعونات فعلية باستمرار للقيام بالدور المنوط به وهو ما لا يتحقق علي الدوام. وينتشر زحام المرضي الآتين من كل نجع وكفر وبلدة القاصدين المعهد ليكشف حجم معاناتهم, بعد أن وحدهم مرضهم, وبسط سطوته عن مقدراتهم المالية وأتي علي البقية من حيوية أجسامهم مشيعين دائما بنظرات العطف والرحمة والحسرة الآسرة للقلوب حتي إن منهم من يعد الساعات والأيام في انتظار الموت الذي لافكاك منه, هنا تعالج القلوب المتعبة, ووسط اعداد كبيرة من المرضي وذويهم المرافقين يدور حديثهم عن الإهمال وعدم الالتزام من بعض الأطباء والممرضين خاصة طول اجراءات الفحوصات وظاهرة اختفاء الأطباء بعد ذلك, من بين هؤلاء تتبعتنا عينا أحد المرافقين لذويهم وبصوت يملؤه الشجن. جبروت الموظفين بادرنا قائلا, إسمي كمال سرور من الفيوم وعمري50 عاما, وكنت أعمل مقاولا معماريا ولكني الان بدون عمل منذ10 سنوات بسبب الجلطات المتتالية. ويخفت صوته وهو يقول أعيش علي كرتونة بها مواد تموينية هي كل قوتي وغذاء عيالي يأتيني من مسجد الرحمن بالمنطقة. ومازلت أحتاج لعملية قلب مفتوح وبصوت حزين يقول شاركت في الثورة ضد الفساد وانفجرت بجوار ساقي قنبلة أطلقها علي الأمن المركزي وغسلوا جرحي بالخل ودفنوا البصل بأنفي لأفيق بعدما عدوني من الشهداء, ومازلت محتفظا بجلباب هذه الواقعة لليوم اعتزاز وشرفا لمقاومتي للظلم, والمثير بعد أن أصبحنا أحرارا وتنفسنا عبير العدالة بزوال الفساد, لا ادري سر المعاملة المذرية من الموظفين وبعض الممرضات بالمستشفي ويتعجب قائلا ان طريقة التعامل بمعهد القلب ومحرك الأحداث هو الواسطة, أو العراك والعنف, مما دفعني لأحرر محضرا لممرضة بسبب تعاطف أحد الاطباء المحترمين مع احدي الحالات الحرجة لأفاجأ بالممرضة تصيح بوجه الطبيب بشدة وتصرخ إنت عايزني آخد حالة ميتة ونهرته بشدة وسط ذهول الجميع. الواسطة.. الواسطة.. ويرتفع صوته وهو يقول, العبارة المقدسة لدي موظفي الاستقبال بالمستشفي لا تبارح ألسنتهم لا توجد أسرة شاغرة لدينا ثم يعطون حقنة ويصرفونالمريض وهكذا إلي أن زادت الحالة وتدهورت وبالكاد وبعد تدخل أحد الأطباء النبلاء وعلي مسئوليته فقط تدخله الممرضة. ويتساءل في حزن قائلا ان زمن من ليس لديه واسطة يتفلق ويموت يجب أن ينتهي وإلا لماذا قمنا بالثورة ومات الشهداء ويختنق صوته بالدموع وهو يقول: لي أربعة أيام لم أنم من أجل صديقي ذي الستين عاما التاجر الذي كان يذبح ثمانية عجول ولا يخشي نقصان ماله ويفرقها علي المحتاجين, وعندما احتجت في السابق إلي دعامة أتي بي إلي هنا, والآن أحاول أن أوفيه حقه علي, ويملأ صوته بالرجاء وهو يقول: أتمني أن يعامل المرضي بالحسني ويراعي أن90% منهم قادمون من الأقاليم لا يعرفون القراءة ولا الكتابة ومن البسطاء المستحقين للعطف, كما يجب أن تختفي ظاهرة قيام كبار الأطباء بحجز أماكن لمرضي سبق الكشف عليهم بعياداتهم الخاصة ويعالجون داخل المستشفي وكله بحسابه المحسوبية لا تجدي ويستنكر أحمد عبدالحكيم محاسب مايحدث قائلا جئت المعهد من أجل والدي المسن الذي سيجري عملية قسطرة بعد أن ذقنا العذاب اكثر من شهر حتي تم تحديد يوم اجراء العملية, فالموظفون بالمستشفي يتخذون اللامبالاة منهجا غير مسبوق في التعامل مع جميع الطوائف! وإذا جئت لتقديم اي اوراق للموظف تفاجأ بممرضة تصيح بالجميع بأعلي صوتها الموظف في الحمام وأتساءل أين زميله او من ينوب عنه, ولم اتخيل نفسي لكي احصل علي4 امضاءات كانت لكل امضاء معركة. ويملأ صوته الألم قائلا الموظف المسئول عن تسلم الورق الذي يقرر ويحدد نوع العملية امسك والدي من ذراعه بتعجرف وقسوة شديدة مشيرا له أن يأخذ جانبا ولم يرتدع الا عندما صحت هل الثورة جاءت إلي هنا وانتهت ألم تسمعوا بما حدث في التحرير. وتظهر علامات الدهشة علي وجهه وهو يقول العجيب ان كل هذه المعاناة حدثت معنا بالرغم من وجود واسطة كبيرة تدعمنا. الموظف في الحمام وبحزن شديد يقول شقيق أحد المرضي, ان لتشابه اسمي عبدالرؤوف مع احد قيادات الداخلية هابني الموظفون بالمستشفي لذا كل مانرجوه المعاملة الطيبة, فلا يعقل ان نحضر المريض ويستعد نفسيا وتحت ضغوط كثيرة وتحايل من الأهل والاصدقاء ويقبل الدخول لإجراء العملية يلغي الميعاد من المستشفي وتعاد الكرة من جديد. ويعتصر صوته الألم قائلا: الموظفون الإداريون لا يرحمون المرضي ومن العيب ان نفاجأ بصياح موظف انا بافطرايه ما اروحش الحمام فالقادم لهذا المستشفي ليس اي مريض, ان مرضه بالقلب لا يتحمل معاناة الذهاب والاياب والمعاملة السيئة وخلافه وإلا سيموت في الحال. مدير المعهد يريد الجبلي لم يكن أمامنا إلا حمل هذه الشكاوي إلي جعبة الدكتور محمد ممدوح اخصائي امراض القلب والأوعية الدموية بالمعهد, الذي بادرنا قائلا: ليس المرضي وحدهم المهانين في المعهد بل الأطباء ايضا, فالعمال والممرضون والاداريون اصبحوا الصوت العالي والمتحكم في المستشفي بسبب مساندة مدير المعهد لهم. القصة يحكيها الدكتور محمد ممدوح بدأت بعد ثورة يناير وسقوط نظام مبارك وإقالة الدكتور حاتم الجبلي وزير الصحة الأسبق والمقرب من الدكتور عادل البنا عميد معهد القلب الحالي, فالأطباء رفضوا استمراره عميدا للمعهد بعد الثورة خاصة انهم يعلمون بالخطة التي كان يسعي لتنفيذها لتحويل المعهد من مؤسسة طبية تعليمية ذات طابع خاص لخدمة مرضي القلب في مصر, تقدم العلاج علي أعلي مستوي إلي مستشفي عام يتبع مديرية الصحة لتحقيق اهداف خاصة تصب لصالح مستشفي دار الفؤاد الذي يشارك به وزير الصحة الأسبق, وهو المنافس القوي امام معهد القلب الذي يقدم الخدمة للمرضي مجانا. فساد وتحايل علي المرضي بصوت يملؤه الشجن علي ما وصلت إليه حال معهد القلب يقول ممدوح إن الفساد وصل داخل المعهد لدرجة تحويل غرفة القسطرة التي تبرعت بها احدي سيدات المجتمع وقيمتها3 ملايين جنيه لخدمة المرضي بالمجان إلي نظام خاص يتم تأجيرها لحساب بعض الأطباء لاستقبال الحالات التابعة لهم وتتم محاسبة الطبيب علي كل حالة وليس حساب المريض بقائمة أسعار, مما يحول في النهاية إلي عدم قدرة المريض الفقير او محدود الدخل علي دفع التكاليف للأطباء. الممرضون والأمن ضد الأطباء يؤكد ما نقلناه إليه من شكوي احد المرافقين للمرضي ان احدي الممرضات رفضت تسلم احد المرضي بالرعاية رغم اوامر الطبيب, وهي بحسب ممدوح واقعة تتكرر بسبب تطاول طاقم التمريض علي الأطباء في الفترة الأخيرة, في ظل تواطؤ مدير المعهد مع الممرضات المقصرات في عملهن يفسر ممدوح التواطؤ بين مدير المعهد وطاقم التمريض والاداريين والأمن كونهم مناصرين له ضد الاطباء المطالبين برحيله باعتباره احد رموز النظام السابق والصديق المقرب لوزير الصحة الأسبق وما طاله المعهد من فساد في الفترة الأخيرة. الاعتداء علي الأطباء يقول محمد ممدوح ان الأطباء قرروا تنظيم وقفة احتجاجية للمطالبة برحيل مدير معهد القلب واثناء اجتماعهم للاعداد للوقفة تعدي عليهم احد افراد الأمن بألفاظ نابية سرعان ما تحول إلي شجار أسفر عن إصابة أحد الأطباء وكسر نظارته, وبعد التحقيق تم خصم3 أيام من راتب الطبيب ولم يعاقب فرد الأمن وقد رصد أحد الأطباء واقعة الاعتداء بفيديو الموبايل ونشرها علي صفحته علي الفيس بوك( تحتفظ الجريدة بالفيديو) ضمن حملة لفضح ممارسات مدير المعهد الحالي وبعض الأساتذة, فأحدهم هدد احد الاخصائيين بالوقوف ضده ومنع حصوله علي الدكتوراة إذا لم يكف عن المطالبة برحيل مدير المعهد أو الاعتراض علي سياسات إدارة المستشفي. أموال المعهد.. أما عن إمكانات معهد القلب فأحيانا تكون متوافرة ومعظم الأحيان لا يعلم عنها الأطباء شيئا هذا ما يؤكده محمد ممدوح اخصائي القلب بالمعهد, ويضيف: أن موارد المعهد متعددة من خلال الرسوم وتذاكر الكشف التي يدفعها المرضي, فالعيادات تستقبل ما لا يقل عن300 مريض يوميا وسعر التذكرة جنيهان, كما يستقبل قسم الموجات الصوتية اكثر من100 حالة يوميا يدفع المريض80 جنيها للحالة, اما قسم القسطرة فيستقبل15 حالة يوميا يتم تحويل قرار علاج من وزارة الصحة ب300 جنيه للحالة, أما تركيب الدعامات فيتستوعب4 حالات يوميا سعر قرار الحالة الواحدة من وزارة الصحة6 الاف جنيه. بخلاف القسم الاقتصادي بالمعهد الذي يستوعب8 حالات تكلفة الحجز لكل حالة5 آلاف جنيه أما قسم الرعاية المركزة فيتم تحويل حسابها من وزارة الصحة بتكلفة ألفي جنيه للحالة فيما يقدر دخل المعهد من جراحات القلب ب12 الف جنيه للحالة الواحدة ويستقبل المعهد6 حالات جراحة يوميا لتغيير صمام القلب أو الشرايين. ويقول ممدوح إن دخل المعهد كبير جدا مما يمكنه من أداء دوره علي أكمل وجه وعلاج المرضي والحالات الحرجة علي أعلي مستوي لكن الأطباء غير مسموح لهم ولو للعلم أين تذهب موارد المعهد. ميت علي كرسي متحرك أثناء خروجنا من المكان لاحظنا أن الجميع ينفضون مسرعين لاخلاء المكان لسيارة ميكروباص, تقترب من البوابة بحذر, يظهر من نافذتها الخلفية سيدتان تتشحان بالسواد ويبدو جليا تجمد الدموع بأعينهما الحمروات, وما ان استقرت السيارة انفتح مسرعا باب الاستقبال المجاور لبنك الدم, ليخرج منه مريضا يجلس قعيدا علي كرسي بعجل يغطي وجهه كله وتتدلي منه بعض الخراطيم ويدفعه شاب يحاول أن يدخله إلي الميكروباص ويحاول امساك احدي السيدتين التي بدأت البكاء والعويل فبادرها قائلا لا تبك ورقة شجر وسقطت ليتبين للمحيطين أن من ينقل بالسيارة ليس مريضا وإنما ميت... اعتراف بالإكراميات من جانبه أكد د. عادل البنا مدير معهد القلب. أن الاكراميات التي يدفعها المرضي وذوويهم لافراد الأمن أو العمال وطاقم التمريض لا شك ممنوعة ومجرمة قانوناولا نسمح بها, لكنها للأسف كانت عرفا سائدا في المجتمع يجب علينا القضاء عليها. وعن قوائم الانتظار للمرضي قال أنه خلال شهر يناير الماضي استطعنا القضاء علي قوائم الانتظار وأصبح الآن أي مريض في حاجة إلي جراحة لا يستغرق تحضيره وانهاء الملف والأوراق أكثر من ثلاثة أسابيع معترفا بأنه خلال السنوات الماضية كان يوجد تأخر في تسيير قوائم المرضي نظرا للأعداد الكبيرة وكان هذا يؤدي إلي تدهور حالة المرضي واستغلالهم من قبل ضعاف النفوس الذين يحصلون علي رشاوي أو إكراميات لتقديم موعد العملية الجراحية, وعن مشكلة المطالبة بإقالته التي تفجرت عقب ثورة يناير, قال ان بعض الأطباء يعتقدون أنه ينتمي بعلاقة قرابة أو صداقة للوزير حاتم الجبلي وقاموا بمظاهرات ضده, وأنه تقدم باستقالته إلي وزير الصحة الحالي أشرف حاتم ولكن خرجت مظاهرات أخري لتأييد لبقائي مديرا للمعهد مما دفع الوزير إلي اعادة تعييني مرة أخري وقال جلست مع الأطباء الرافضين بقائي في المعهد وناقشت طلباتهم فتبين أن50% منها مطالب مشروعة ووقائع الخلاف للعاملين وطاقم التمريض السابقة يتم التحقيق فيها واعترف بأن ثورة يناير غيرت في تفكيره فأصبح هدفه الأساسي ارضاء المرضي والقائمين علي علاجهم.