إذا كانت وظيفتك, علي سبيل المثال, التخطيط المدني وكنت مسئولا عن إدارة المرور, أمامك مقاربتان لتنظيم سير المركبات في مدينتك. الأولي تأخذ بالاعتبار النظام المروري بالكامل وتحدد مواقع الاختناق المروري وتجري تغييرات معينة للتخلص منها, والثانية تتيح للسائقين اتخاذ خياراتهم المرورية. وستكون المقاربة الأولي أكثر فعالية من تلك التي تتيح للسائقين اتخاذ قراراتهم بأنفسهم علي اعتبار أن تلك الخيارات في مجموعها, ستحقق نتائج مرضية. ولا شك في أن المقاربة الأولي ستخفض نسبة الفوضي وستعمد إلي استخدام المعلومات بشكل أفضل. عالمنا اليوم غارق في بحر من البيانات. وفي العام2015 وحده, أنتجت البشرية كمية هائلة من المعلومات تعادل كل ما أنتجته الحضارة الإنسانية في السنوات الماضية. ففي كل مرة نبعث برسالة, أو نجري مكالمة هاتفية, أو نعقد صفقة ما, نترك آثارنا في الحيز الرقمي. إننا نمضي بخطي سريعة نحو إنتاج ما أطلق عليه الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو ببصيرته الثاقبة ذاكرة العالم أي النسخة الرقمية الكاملة من عالمنا المادي. ومع امتداد شبكة الإنترنت إلي عوالم جديدة من الفضاء المادي من خلال إنترنت الأشياء, تمثل نسبة الفوضي مقياسا مهما في مجتمعنا, وتزداد الرغبة في التخلص منه من خلال استخدام تحليل البيانات الضخمة. وفي هذا الإطار, تكثر الأمثلة للتأكيد علي هذه الحقيقة. إذا تأملنا عملية شراء كتاب عن طريق موقع أمازون علي الإنترنت, فإن شركة أمازون تحتفظ بكمية هائلة من المعلومات عن كل مستخدميها بدءا من سيرهم الذاتية وسجل بحثهم عبر الإنترنت وصولا إلي العبارات التي يستخدمونها بحثا عن الكتب الإلكترونية. كل هذه المعلومات تشكل مرجعا للشركة لبناء توقعاتها حول ما يمكن أن يختار هؤلاء المستخدمون من كتب في المستقبل. وكما هي الحال في جميع أشكال الذكاء الاصطناعي المركزي, تستخدم الأنماط السابقة للتنبؤ بأنماط المستقبل. وبوسع شركة أمازون أن تطلع علي عناوين الكتب العشرة الأخيرة التي قام العميل بشرائها لكي تقترح عليه آخر عنوان كتاب جديد بعدما نمطت سلوكه ورغباته استنادا إلي المعلومات والبيانات الخاصة به. علينا هنا أن ننتبه إلي الخسارة التي تلحق بنا عند تقليص استخدامات البحث الرقمي, فبعد تلك الكتب العشرة السابقة يجب البحث عن كتاب لا يحاكي النمط نفسه بل يكون من نمط آخر يدهشك ويقدم لك رؤية جديدة ويتحدي ثقافتك ومعلوماتك ويتيح لك استكشاف عوالم ثقافية جديدة. وعلي عكس ما ذكرناه عن تحليل وقراءة بيانات الحركة المرورية في بداية المقالة, فإن الاقتراحات التي ستقدمها أمازون للقارئ والمستندة إلي توقعات استلهمتها الشركة من بيانات القارئ وخياراته السابقة, لن تكون النموذج الأفضل للبحث عن الكتب عبر الإنترنت. إن البيانات الضخمة قادرة علي مضاعفة خياراتنا فيما تغربل خيارات أخري لا نرغب في الاطلاع عليها, لكنها تحرمنا من متعة اكتشاف الكتاب الحادي العشر الذي قد يكون أجمل صدفة ثقافية نعيشها. ما يصح علي تجربة الكتب الإلكترونية, يصح أيضا علي العديد من التجارب التي بدأت تتحول رقميا مثل مدننا ومجتمعاتنا. يمكننا أن نذكر لجوء البلديات المركزية إلي الخوارزميات أو أنظمة الحلول الحسابية من أجل مراقبة البنية التحتية للمدن من إشارات المرور وأنفاق المترو, وصولا إلي عمليات التخلص من النفايات وتوفير الطاقة. لقد أصبح رؤساء البلديات في مختلف أنحاء العالم مفتونين بغرفة التحكم المركزية, مثل مركز عمليات ريو دي جانيرو الذي صممته شركة آي بي إم, والذي يسمح للمسئولين إدارة المدينة بالاستجابة الفورية للمعطيات الجديدة. لكن الاعتماد علي الخوارزميات المركزية والبيروقراطية المرتكزة علي البيانات في إدارة مقومات المجتمع كافة, يشكلان اليوم تهديدا حقيقيا للإبداع والديمقراطية. ولابد لنا من منع حدوث ذلك بأي ثمن. لا شك في أن لا مركزية القرار تثري المجتمع, لكن في المقابل فإن الاعتماد المطلق علي البيانات في تصميم الحلول وفقا لنموذج محدد سلفا, يقطع الطريق أمام تشكل الأفكار الخارجة عن النمط السائد والحلول النابعة من الذكاء الفطري والتي كانت في أساس تقدم الحضارة الإنسانية وتحقيق قفزات مدهشة في التاريخ. إن بعض العشوائية في حياتنا يفتح الطريق أمام أفكار أو طرق جديدة في التفكير لابد منها لنضفي معني أعمق علي الحياة. هذه العشوائية ضرورية للحياة ذاتها, فلو استخدمت الطبيعة خوارزميات تنبؤية تحول دون حدوث طفرة عشوائية في استنساخ الحمض النووي, لبقي كوكبنا في مرحلة الكائن وحيد الخلية. إن لا مركزية القرار قد تؤسس لتناغم وتكامل بين الذكاء البشري والآلة من خلال آليات التطور المشترك بين الذكاء الطبيعي والاصطناعي. وإذا كان الذكاء الموزع يحد من الكفاءة علي المدي القريب, فإنه حتما يؤدي في نهاية المطاف إلي مجتمع أكثر إبداعا وتنوعا ومرونة. مدير مختبر سينسبل سيتي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بالولايات المتحدة ورئيس مجلس الأجندة العالمية للمنتدي الاقتصادي العالمي لشئون مدن المستقبل.