يتصور الكثيرون أن فساد النظام السابق يتلخص في مليارات الدولارات التي نهبت علي أيدي الرئيس وبطانته وبطانة نجله الذي كان موعودا بالوراثة, أو في آلاف الأفدنة وملايين الأمتار التي استحوذ عليها رجال الأعمال ب تراب الفلوس في غفلة من المجتمع والرقابة والضمير, أو في تزوير إرادة الشعب في انتخابات واستفتاءات لاتعرف من النزاهة والحيدة حرفا, أو في القهر والقمع الذي مارسته الأجهزة الأمنية ممثلة في جهاز أمن الدولة المخيف ومديريات الأمن وأقسام الشرطة, ولكنه يتمثل أيضا في أننا بدأنا نشرب مياها ملوثة واختلطت بالصرف الصحي نتيجة تداعي البنية الاساسية وانتهاء العمر الافتراضي لمنظومة المجاري التي كانت في حاجة إلي إحلال وتجديد لم يتما كما أننا بدأنا ومنذ عقود نتناول طعاما ملوثا تم ريه بمياه الصرف الزراعي والصرف الصحي أو بمياه النيل التي تلقي فيها ملايين الأمتار المكعبة من النفايات الصناعية, وليس سرا أن طعامنا المستورد من الخارج لم يخل من شحنات كبيرة من الأطعمة المنتهية الصلاحية التي كان يستوردها معدومو الضمائر في صورة مطالبات غير صالحة للاستهلاك الحيواني إضافة للأقماح المسرطنة واللحوم التي تحتوي علي ديدان إلي آخره. كما أن محاصيلنا في الداخل لم تخل هي الأخري من مبيدات مسرطنة وهرمونات تتسبب في إحداث أورام خطيرة وفشل كلوي وكبدي وقائمة طويلة من الأمراض بسبب انعدام الضمير لدي الكثير من المستوردين والتجار والمزارعين الذين لم يستحوا من إطعامنا منتجات قاتلة ومميتة لاستعجال الثروة. ................ ................ من يقرأ الصحف من بعد تاريخ25 يناير ربما يعرف فقط أرقاما كانت خافية عليه لأرصدة المسئولين ورجال الأعمال ورءوس الفساد السابقين, وهي أرقام مذهلة بكل المقاييس تكشف توحشا غير مسبوق وطمعا لاحدود له وسباقا مجنونا نحو الثراء الفاحش والفادح والمؤلم.. ثراء لا معني له ولامبرر, ثراء من أجل إفقار الآخرين, لأن النفس البشرية التي جبلت علي الطمع, وعين ابن آدم التي لا يملؤها إلا التراب لا تقدر ولا تتخيل الطريقة التي يمكن بها صرف هذه المليارات في مئات السنين. فهؤلاء الفاسدون لم يقصدوا تحقيق الاكتفاء ولا إشباع النهم, لأن ما حصلوا عليه من جبال البنكنوت كفيل بإطفاء أي تعطش للثروة حتي لدي أكثر الناس دناءة وخسة وأنانية, ولكني أتصور أنهم كانوا يسعون للاستمتاع بإفقار الآخرين الذين هم السواد الأعظم للشعب المصري العظيم.. مجرد التلذذ بأرصدة فلكية تتجاوز أحلام الشياطين. *** غير أن السؤال أو الأسئلة التي أود طرحها في هذا المقال حول الفساد والمفسدين هو! من هو المسئول عن هذه المنظومة الهائلة من الفساد هل هو الرئيس مبارك وحده؟ أم كبار المسئولين الذين يحيطون به ؟ أم أن بطانة السوء من رجال الأعمال الفاسدين( شلة الوريث)؟ وهل الفساد أمر مستحدث في مصر بدأ منذ عام1981 فقط أم أن له جذورا تمتد لفترات سابقة علي هذا التاريخ؟ *** أبدأ طرح تصوري للإجابة بقول الله سبحانة وتعالي ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس لنذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون صدق الله العظيم. لست مفسرا للقرآن الكريم, ولكن نص الآية واضح لا يحتمل اللبس أو التأويل, فالفساد هو نتيجة وليس سببا في حد ذاته, والفساد يقع كنتيجة مباشرة لأفعال( الناس) دون تحديد, وهو ما يعني مسئوليتنا جميعا حكاما ومحكومين. وأنا هنا لا أريد تبرئة النظام السابق من المسئولية لا سمح الله, ولكن لأسجل أن المسئولية عن الفساد الحاصل في رقبتنا جميعا, وإن تفاوتت الدرجات. فالحاكم يتحمل المسئولية الأكبر بطبيعية الحال لأنه يملك السلطة والأدوات التي تمكنه من القضاء علي الفساد من جذوره إذا توافرت لديه الإرادة, كما أنه يملك إمكانات رعاية الفساد وتكبيره وتسمينه حتي يستفحل ويبلغ ما بلغه من آفاق عريضة يصعب السيطرة عليه كما وقع بالفعل, وانبثقت عن الحكم رؤوس متعددة للفساد أفرزت بدورها رؤوسا أصغر حتي أصبح الفساد منظومة متشابكة يشد بعضها بعضا في المستويات العليا من الإدارة والسلطة. في الوقت نفسه لم يكن المحكومون( أفراد الشعب) ملائكة ساجدين يسبحون بحمد الله آناء الليل وأطراف النهار, لكنهم أيضا كانوا يسعون للفساد.. يرتشون ويبتزون ويرون الأخطاء ولا يسعون للإصلاح بل يستمرأون الفساد, يمالئون النظام ويبحثون دائما عن واسطة أو محسوبية تمكنهم من استغلال الموقف أو استغلال الأخرين أو استغلال أي فرصة, المهم أن مبدأ الاستغلال لاغبار عليه ولا مانع من اللجوء إليه كلما أمكن. للفساد في مصر قصة طويلة وحكايات تروي.. ويخطئ من يعتقد أن الفساد بدأ مع مطلع ثمانينيات القرن العشرين. مصر دولة كبيرة ولها ماض طويل يمتد لأعماق التاريخ, هو ماض تليد وعريق, يكشف عن معدن أصيل للشعب( حكاما ومحكومين), غير أن هذا الماضي بكل انجازاته الرائعة لم يكن مجرد صفحات من نور فقط وإلا تعين علينا أن نتواري خجلا ولكنه ضم إلي ذلك صفحات من ظلم وقهر واستبداد ومركزية وتسلط وانتهاكات وتعذيب.. إلي أخره. أهرامات الجيزة شاهدة بكل عظمتها وشموخها وعبقريتها علي الاستبداد الرهيب الذي تعرض له المصريون علي مدي عشرين عاما لبنائها.. حاكم يجبر شعبه علي العمل بالسخرة لمدة عقدين من الأزمان لبناء مقبرة!! ألم يكن هذا استبدادا وقهرا وذلا وفقرا؟! ألم ترزخ مصر تحت حكم الأجانب منذ فجر تاريخها وحتي قيام ثورة يوليو1952, هل كان حكم المحتل ديمقراطيا أو عادلا أو محترما في أي صورة من صوره سواء كان هذا المحتل اغريقيا أم فرنسيا أم انجليزيا أم عثمانيا أم مملوكيا أم فاطميا... إلي آخره. كلهم سامونا سوء العذاب, نهبوا خيرات مصر وتركوا الشعب جائعا, والأهم من ذلك أن المصريين علي مر تاريخهم لم يموتوا جراء هذا الظلم, بل تعايشوا معه وتعلموا أيضا كيف يظلمون أنفسهم فيما بينهم. وربما نكون بلغنا أقصي درجات الظلم والامتهان خلال الثلاثة عقود الماضية خلال حكم الرئيس مبارك ليس مقارنة بما سبق وتعرض له اجدادنا علي أيدي المحتلين ولكن لأن الظلم يأتي من بني بلدتنا ولا يأتي من محتل أجنبي وهذا هو الأكثر إيلاما. فعلي مستوي نهب المال العام نجحت بطانة الرئيس في نزع أموال المصريين حتي تراكمت جبالا هائلة.. مليارات وتريليونات من الجنيهات والدولارات في حسابات خاصة في بنوك سويسرا وانجلترا وفرنسا وأمريكا تكفي لإطعام وإسكان وإثراء وترفيه وإسعاد عشرات الملايين, تكفي لنقل مصر إلي مصاف الدول الغنية وتحقيق التنمية وتحويل البلاد إلي دولة من العالم الأول المتقدم. تكفي لبناء آلاف المصانع واستصلاح ملايين الأفدنة وتحقيق الاكتفاء الذاتي من كل شيء. الأموال المنهوبة كانت ستوفر علي المصريين ذل الغربة والسفر للعمل في العراق والخليج وليبيا والجزائر وركوب البحر للهجرة غير الشرعية لأوروبا حيث ينتظرهم موت محقق, ومن يصل منهم حيا يعيش مطاردا من شرطة الهجرة. ثم عملية بيع جماعية للمصانع والمنشآت والمؤسسات لمستثمرين أجانب بربع وعشر الثمن مقابل رشاوي لملايين مما أسهم في تضاعف أعداد العاطلين عن العمل وتشريد عشرات آلاف العمال بلا مبرر موضوعي ودون بناء مشروعات بديلة تستوعب هذه العمالة. وعلي مستوي الممارسة السياسية, حرمت الأغلبية الصامتة من المشاركة خوفا من الملاحقة والتنكيل, وتحولت البلاد إلي معتقل كبير لكل المعارضين مما نكشف أسراره يوما بعد يوم, هذا اضافة إلي ترسيخ عدم الشعور بالانتماء لوطن أصبح يأكل أولاده بلا رحمة. ثمانية ملايين مصري يعملون بالخارج مضطرين لعدم عثورهم علي فرص عيش كريمة في وطنهم بسبب جشع قلة قليلة من المسئولين غير المسئولين ورجال الأعمال المتوحشين, كان بالإمكان الاستفادة من خبراتهم وجهودهم لدفع عجلة التنمية, ما يمثل إهدارا لموارد بشرية مهمة كلفت المجتمع مليارات الجنيهات لإعدادها ليستفيد منها غيرنا ليضيف لخسائرنا المادية خسائر أخري غير قابلة للتعويض تسمي في أدبيات التنمية( نزيف العقول). وإن كانت مصر خلال تاريخها الطويل قد تعرضت لمجاعات مميتة, وغزاة لا يعرفون الرحمة وانفلاتات أمنية رصدت السكان رصدا علي مر السنين, وأوبئة وجائحات طاعون لم تترك وراءها بشرا ولا شجرا مما لم تعرفه في عصر مبارك, غير اننا لا ينبغي أن نقيم فترة حكم رئيس مصري بغيرها من فترات الاحتلال. فما كنا نقبله من المحتل( صاغرين), لا يجوز أن نقبله من رئيس خرج من بيننا, في ضوء اختلاف الظروف عن الماضي شكلا ومضمونا. فلتكن ثورتنا المباركة( ثورة الشباب) ثورة حقيقية علي الفساد وعلي القهر والتربح والاستغلال والقمع والتزوير والرشوة والابتزاز والمحسوبية والواسطة والكهانة, فلتكن ثورة علي ضعف نفوسنا لنكون قادرين دائما علي مواجهة الظلمة أيا كانوا في كل الأوقات والمواقع. لتكن ثورة علي الفساد الكامن في النفوس, حبا في الدنيا وتفضيلا للنفس علي الغير التي هي أصل البلاء كله. أتصور أن أمامنا سنوات للتخلص نهائيا من الفساد بكل جذوره وليس رؤوسه فقط فالرؤوس قد تساقطت تباعا وتنتظر محاكمات عاجلة, ورؤوس الفساد محدودة العدد لا تتجاوز مئات المسئولين ورجال الأعمال, أما جذور الفساد فربما يتجاوز عددها الملايين من صغار الموظفين المرتشين والمتربحين في كل المصالح الحكومية والمؤسسات والوزارات, والجذور تحتاج إلي علاج شامل لأنه من غير الوارد استئصالها جميعا وإلا قضينا علي نسبة كبيرة من المجتمع, فإن كان ولابد أن تستأصل الجذور التالفة تماما والتي لا يرجي منها إصلاحا أما بقية الجذور فلابد من اصلاحها مما كلفنا ذلك من جهد ووقت ومال.