إذا كان وزير التعليم لا يقدر مدي خطورة ما حدث, ويتعامل مع مثل هذه القضية بهذا البرود فهو غير جدير بالجلوس علي مقعد الوزير, بل تجب مساءلته قضائيا. تسريب أسئلة ونماذج إجابة امتحانات الثانوية العامة له تداعيات كثيرة وخطيرة, تنسف ما تبقي من منظومتنا التعليمية المختلة والمنحدرة, وتسقط قيمة الاجتهاد والرغبة في التفوق والتحصيل, وتستبدل هذه القيم المهمة والضرورية لبناء الوطن وتقدمه بمجموعة قيم هدامة, تجعل من الغش والفساد وسيلتين وحيدتين للترقي وتحقيق الأهداف.. ويعد التسريب أخطر التحديات المهددة لأمننا القومي, فهدم منظومة القيم الإيجابية لأجيال الشباب, وهدر قيمة التفوق والاجتهاد هما الخراب بعينه لكل مؤسسات الدولة التي سيلتحق بها هذا الجيل. الغشاش والفاسد يطرد المجتهد والمتفوق, لا توجد قاعدة تخريب أكثر من هذا الوضع; لنصبح في مجتمع لا ينتج سوي الجهلة والغشاشين والفاسدين, وننهار علي جميع المستويات; العلمية والاقتصادية والأخلاقية.. هل توجد قضية بمثل هذه الخطورة أمامنا؟ كنت أتوقع أن تعلن وزارة التعليم حالة استنفار عام, وألا ينام الوزير إلا بعد ضبط الغشاشين والفاسدين, الذين يهدمون كل مقومات التقدم والإصلاح في الدولة, وعندما جري تسريب امتحانات مادة التربية الدينية اعتقدنا أن ثغرة قد فاجأت الوزارة, وأنها لن تهدأ إلا بكشف مكانها والمسئولين عنها, وتقديمهم إلي محاكمة عاجلة; ليكونوا عبرة لمن يرتكب مثل هذه الجريمة الخطيرة, لكن الثغرة أصبحت ثغرات, والتسريبات تحولت إلي حدث يومي, يتكرر مع كل امتحان, والوزارة تغط في النوم, وكأن التسريبات والغش حوادث قدرية لا شأن للوزارة بها, واكتفت بحملة دعائية ساذجة وظفت فيها صحفيين وإعلاميين يحصلون علي مكافآت وأجور من الوزارة, بعضهم يدعي أنها مؤامرة إخوانية, وآخرون يتحدثون عن جماعة اللهو الخفي ويفترضون أن جماعة منتفعين مضارين من حملة الوزير ضد الفساد هم المسئولون عن هذه الاختراقات, دون أن يذكروا من هم أفراد هذه الجماعة, ولا كيف تتصرف الوزارة تجاه هؤلاء الذين اخترقوا قلبها, ونهبوا أغلي ما تملك, وانتهكوا أشد خصوصياتها؟! إن قضية بمثل هذه الخطورة والأهمية تستحق اهتماما يصل إلي إعلان حالة التأهب القصوي في كل أجهزة الدولة, فهي لا تمس كل أسرة مصرية فقط, ولم تهدر ما تكبده المجتهدون والمتفوقون من جهد ومال, ولم تلحق أشد الضرر بالعملية التعليمية, وإنما تكشف مدي سهولة اختراق أجهزة الدولة وتحديها وهزيمتها ماديا ومعنويا, وتهز الثقة في مؤسسات الدولة وأمنها, وتسيء إلي سمعة دولة عاجزة عن مجرد تأمين أوراق أسئلة وأجوبة الامتحانات. إذا كان وزير التعليم لا يقدر مدي خطورة ما حدث, ويتعامل مع مثل هذه القضية بهذا البرود فهو غير جدير بالجلوس علي مقعد الوزير, بل تجب مساءلته قضائيا عن الأضرار التي لحقت بالطلاب وأسرهم, والقيم السلبية التي تسبب في انتشارها, والإساءة لمستقبل وطن, قبل الإساءة لسمعته. غير مقبول أن يدعي أي مسئول عن وجود متآمرين مجهولين, فدور كل مسئول أن يتجنب حدوث الخطأ من الأساس, بإجراءات وقائية قائمة علي المهنية والجدية, وعندما يتم اختراقها مرة, يجب أن يتم الكشف عن مرتكبيها ومعاقبتهم, أما إذا تكررت مرات ومرات دون الكشف عن مرتكبيها فإن هذا المسئول غير جدير بالمسئولية, بل شريك بشكل أو بآخر في الجريمة, سواء بالإهمال أو عدم الكفاءة. إن طلاب الثانوية وأسرهم وقطاع التعليم, بل والمجتمع كله ينتظرون إجراءات حاسمة بقدر الجرم والمخاطر التي تسبب فيها تسريب الكثير من امتحانات الثانوية العامة.. مستقبل جيل وقيمه, بل مستقبل الوطن كله بين أيديكم, فإما أن تتحركوا بسرعة وتنقذوه, وإما أن تعترفوا بالفشل وعدم الاكتراث, وتغطوا خطاياكم بالمبررات الواهية, فيكون الوطن هو الضحية.