روي البخاري ومسلم والنسائي عن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلي بيوت أزواج النبي صلي الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلي الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها, قالوا: فأين نحن من رسول الله صلي الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا, وقال: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر, وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء, ولا أتزوج أبدا, فجاء رسول الله صلي الله عليه وسلم إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له, ولكني أصوم وأفطر, وأصلي وأرقد, وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني هذا الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو( رضي الله عنها حين كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يعلمه ويرشده كان صبيا في مقتبل العمر ربما لم تصل سنه إلي العشرين, ومع ذلك تري مدي عناية رسول الله صلي الله عليه وسلم به, هذه العناية التي جعلته يحاوره ويناقشه وينتقل به ومعه في رفق وروية يعرض عليه وجهة نظره, وعبد الله لا يرفض ما يأمره به رسول الله صلي الله عليه وسلم ولكنه يريد زيادة الفضل والاستكثار من الصيام والقيام, ويطلب التفرغ مما يمكن أن يشغله عن عبادة مولاه, فما أعظم هذا النبي الكريم, وما أحوجنا أن نتعلم منه هذه الوسائل في تربية شبابنا وأبنائنا, وإذا كان رسول الله قد وجهه إلي الاعتدال في صيامه وقيامه فإنه قد أرشده بالإضافة لذلك إلي المدة التي يمكن أن يقرأ فيها القرآن الكريم.. وفي هذا يروي البخاري عنه قال: أنكحني أبي امرأة ذات حسب, وكان يتعاهد كنته( أي زوجة ولده)فيسألها عن بعلها فتقول له: نعم الرجل من رجل لم يطأ لنا فراشا, ولم يفتش لنا كنفا منذ أتيناه( وهي تكني بذلك عن عدم رغبته فيما يكون بين الرجل وزوجه من معاشرة) فلما طال ذلك عليه, ذكر ذلك للنبي صلي الله عليه وسلم, فقال: القني به, فلقيته بعد فقال: كيف تصوم؟ قلت: كل يوم, قال: وكيف تختم؟( أي القرآن) قلت: كل ليلة, قال: فصم صوم نبي الله داود, فإنه كان أعبد الناس, واقرأ القرآن في كل شهر, قلت يانبي الله إني أطيق أفضل من ذلك, قال: فاقرأه في عشرين, قلت يانبي الله إني أطيق أفضل من ذلك, قال: فاقرأه في كل عشر, قلت يانبي الله إني أطيق أفضل من ذلك, قال فاقرأه في كل سبع, ولا تزد علي ذلك, فشددت فشدد علي, وقال لي النبي إنك لا تدري لعلك يطول بك عمر, قال: فصرت إلي الذي قال لي النبي صلي الله عليه وسلم فلما كبرت وددت أني كنت قبلت رخصة نبي الله صلي الله عليه وسلم. ولنتساءل إذا كنا قد سمعنا واستمتعنا بهذا الهدي النبوي في الدعوة إلي عدم الغلو والإفراط في العبادات والطاعات فهل يعني ذلك ترك النوافل وألوان القربات والاقتصار علي أداء الفرائض والواجبات؟ والجواب, ليس الأمر كذلك فقد وردت الآيات والأحاديث ترغب في كثير من ألوان الطاعات والقربات, ولا يزال العبد يتقرب, إلي الله بالنوافل حتي يحبه, فإذا أحبه كان سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به, ويده التي يبطش بها, ورجله التي يمشي عليها, ولئن سأل ربه ليعطينه, وإن استعاذ به أعاذه كما ورد في الحديث القدسي, ولكن الذي لا يحبه الله وعنه نهي رسول الله صلي الله عليه وسلم هو الأتقطاع للعبادة وتحميل النفس فوق طاقتها, فإن ذلك يؤدي إلي السآمة والملل, ويؤثر علي نشاط المؤمن في الحياة, إذ كيف يقوم بواجباته في عمله وبيته وهو لم يأخذ حظه من النوم والراحة والطعام والشراب, فهو قد أسهر ليلة في عبادة الله, وأظمأ نهاره صائما لمولاه وهذا بعض ما يفهم من قول رسول الله صلي الله عليه وسلم: إن هذا الدين يسر, ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا, وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة وهذا معناه أن العبادة إنما تكون في أوقات متفرقة من الليل والنهار, فإن خير العمل أدومه وإن قل, ولذلك حين دخل رسول الله المسجد ووجد حبلا ممدودا بين عمودين من أعمدة المسجد سأل: ما هو هذا الحبل؟ قالوا: حبل لزينب( أي زينب بنت جحش, أم المؤمنين) فإذا فترت( أي من الصلاة والذكر) تعلقت به, فقال النبي صلي الله عليه وسلم لا, حلوه, ليصل أحدكم نشاطه, فإذا فتر فليقعد, إلي غير ذلك مما رآه رسول الله صلي الله عليه وسلم من مظاهر التشدد في عبادة الله, فعالج ذلك كله برفق وأخذ بيد أصحابه إلي طريق السداد والرشاد, فصلوات الله وسلامه علي من أرسله الله رحمة للعالمين.