تشهد المنطقة العربية دون سائر مناطق العالم أكبر وأكثر الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان, وجرائم القتل علي خلفية سياسية وأعمال إرهاب, وتشهد برغم ذلك أقل آليات للمحاسبة, بل أكثر حالات الإفلات من العقاب, وفي كل الحالات فإن مجرد كشف الحقيقة بات حلما, فعمليات طمس الحقيقة في العالم العربي وفي السياسة العربية تعدت كل الحدود. ولم تواجه محكمة جنائية دولية خاصة أنشأتها الأممالمتحدة بقرار من مجلس الأمن تحت الفصل السابع انتقادات وحملات وهجوما مثلما تتعرض المحكمة الدولية الخاصة بلبنان, من المحكمة الخاصة بيوغسلافيا السابقة إلي رواندا إلي المحاكم المختلطة دولية وطنية من تيمور الشرقية إلي سيراليون مرورا بكمبوديا وكوسوفا, وذلك لأسباب سياسية تتعلق بالأوضاع الداخلية في هذا البلد. وقد زار بيروت قبل أيام الدكتور أيمن سلامة أستاذ القانون الدولي والخبير الدولي في المحاكم الجنائية الدولية الخاصة الذي التقاه الأهرام المسائي. ويؤكد سلامة في حديثه ان الحكومة اللبنانية أي حكومة لاتستطيع إلغاء المحكمة لأن مجلس الأمن أنشأها تحت الفصل السابع, وان الادعاء بأن اتفاقية إنشائها خالفت القواعد الدستورية في لبنان ليس له اعتبار لان قرار المجلس يجب الإجراءات الدستورية اللبنانية لان جريمة اغتيال الحرير تم تكييفها حسب المادة39 من ميثاق الأممالمتحدة بوصفها جهة إرهابية تهدد السلم والأمن الدوليين, معتبرا التفكير في إلغاء المحكمة عبثا ومضيعة للوقت. وألمح إلي أن لبنان قد يكون معرضا للطرد من الأممالمتحدة في حالة عدم الاذعان لقرار مجلس الأمن في هذا الشأن علي غرار فصل يوغسلافيا في تسعينيات القرن الماضي. إلغاء المحكمة؟ وحول إمكان إلغاء الحكومة اللبنانية المحكمة واعتبارها كأن لم تكن وسحب بروتوكول التعاون معها في ضوء اعتبار معارضة تأسيس المحكمة باطلا كونه استند إلي اتفاقية ابرمتها الحكومة السابقة برئاسة فؤاد السنيورة عام2006 مع الأممالمتحدة, وأن هذه الاتفاقية دولية لم يصادق عليها مجلس النواب بالمخالفة لاتفاقية فيينا لقانون المعاهدات الدولية عام1969, كما لم يوقع رئيس الجمهورية عليها بالمخالفة للدستور اللبناني, ومن ثم يتوجب نقضها لمراجعتها واتباع الاصول الدستورية؟.. يؤكد سلامة ان هذه المبررات لاتنقض المحكمة الدولية وان اتفاقية فيينا لاتسري علي هذه الاتفاقية بين الحكومة اللبنانية والأممالمتحدة للأسباب الآتية, وان أي حكومة لبنانية لاتستطيع التنصل من المحكمة أو إلغاءها للأسباب الآتية: 1 أنه طبقا لميثاق الأممالمتحدة فإن لمجلس الأمن التدخل في القضايا التي يراها تهدد السلم والأمن الدوليين كون الميثاق اناط به الحفاظ علي الأمن والسلم الدوليين. 2 ان جريمة اغتيال رفيق الحرير اعتبرها المجلس من القضايا التي تهدد السلم والأمن الدوليين, ومن ثم تعامل معها علي هذا النحو, حيث اعطت المادة39 من الميثاق المجلس السلطة المطلقة في تكييف الحالة, ومن ثم كان للمجلس ان ينشيء هذه المحكمة حتي دون اتفاقية. 3 طبقا لهذه المادة تعامل المجلس مع هذه الحالة اغتيال الحريري بوصفها تهديدا للسلم والأمن الدوليين بعد ساعات من وقوع الجريمة, وحتي قبل ان تطلب منه الحكومة اللبنانية آنذاك, المساعدة في ملابسات الحادث. 4 انه منذ احداث سبتمبر2001 اخذ مجلس الأمن علي عاتقه التصدي لجرائم الإرهاب استنادا للفصل السابع واتخذ العديد من القرارات في هذا الشأن خلال شهري سبتمبر وأكتوبر من العام نفسه ومن ثم فان تعامل المجلس مع جريمة اغتيال الحريري بوصفها جريمة إرهابية تستدعي التعامل معها استنادا للفصل السابع( ومن دون اتفاقات مع احد) لم يكن الأول من نوعه. 5 أن مجلس الأمن في مثل هذه القضايا لاينتظر العبث والخلافات الداخلية داخل الدول قبل الشروع في تحمل مسئولياته واستخدام صلاحياته في التعامل المباشر دون انتظار اتفاقات, ومن ثم فإن الاتفاقية الموقعة بين الحكومة والأممالمتحدة لاتنطبق عليها اتفاقية فيينا, فضلا عن ان اتفاقية2006 ليست اتفاقية سياسية أو اقتصادية أو جمركية حتي تنطبق عليها اتفاقية فيينا( أعمال السيادة). 6 وبرغم ذلك فإن تصدي مجلس الأمن للتعامل مع هذه الجريمة جاء بعدما كان امهل الحكومة اللبنانبة مهلة زمنية للتصديق علي هذه الاتفاقية, لكن لم يتم التصديق, فتعامل المجلس مع الجريمة لانه في مثل هذه الحالات لايعبأ المجلس ولايكترث بالخلافات والنزاعات الداخلية بين مؤسسات الدولة المعنية ومرافقها, ولاينظر إلا لو اجبه الاصيل في حفظ السلم والأمن الدوليين, والذي اوكل إليه هذه المهمة كل الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة ومنها لبنان. ويشير سلامة إلي ان مجلس الأمن قرر في تسعينيات القرن الماضي فصل يوغسلافيا السابقة من عضوية الأممالمتحدة لعدم اذعانها لقرار المجلس بشأن المحكمة الدولية الخاصة بجرائم الحرب في البوسنة والهرسك ولامعانها بعدم الالتزام بقراره عدم توريد السلاح والذخيرة إلي الصراع الدائر في البوسنة, بل رفض المجلس طلبات الحكومة الرواندية عند إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بجرائم الحرب فيها, ومنها طلبات خاصة ان يكون مقر المحكمة في رواندا وان ضمن المحكمة قضاة وطنيين ضد تشكيل هيئتها. ويضيف أنه لم يحدث في تاريخ الأممالمتحدة من1945, أن اتخذ مجلس الأمن قرارا في قضية تتعلق بالسلم والأمن الدوليين بموجب الميثاق وتحت الفصل السابع الذي يسميه بعض فقهاء القانون الدولي بالباب القسري أو الجبري وتراجع عن قراره. ويضيف, أنه حين يصدر المجلس قرارا بموجب الفصل السابع فانه ينشئ له آليات لمراجعة الالتزام والتنفيذ من جانب الدول الأعضاء, وبالتالي لا يستطيع أحد إلغاء المحكمة أو حتي مجرد التفكير في ذلك, فهذا يعد عبثا ومضيعة للوقت. ويلفت في هذا الصدد إلي أن محكمة العدل الدولية وبعد أن قررت قبول الاختصاص بالنظر في النزاع بين الولاياتالمتحدة وبريطانيا من جهة وليبيا من جهة أخري حول تفسير وتطبيق اتفاقية مونتريال لعام1971 بشأن النقل الجوي في إطار أزمة لوكيربي, أصدر مجلس الأمن قرارا تصدي فيه لهذه القضية باعتبار أن حادث لوكيربي يهدد السلم والأمن الدوليين فما كان من محكمة العدل الدولية أن رفعت يدها عن القضية بعد حل المجلس بمقتضي الفصل السابع, منبها إلي أن الغاية النهائية لكل هيئات ووكالات الأممالمتحدة هو إحياء تحقيق وحفظ السلم والأمن الدوليين ويستطرد الدكتور سلامة قائلا: إن مجلس الأمن عندما يتصدي لمثل هذه القضايا( جرائم الإرهاب والسلم والأمن الدوليين) فهو لا يبالي بالاجراءات الداخلية في الدول( الدستور والتصديق) لأنها غير ملزمة لمجلس الأمن, لأن قراراته تنقض ما عداها, ولا تنقض. المحكمة مسيسة وغير نزيهة؟ وحول الاتهامات الموجهة إلي المحكمة بالتسييس وعدم النزاهة والمصداقية يرد سلامة: أن هذه المحكمة نشأت في ظروف ونتيجة لبواعث سياسية لكن هذه الظروف والبواعث شيء, وعمل محكمة جنائية دولية خاصة شيء آخر, نافيا هذه الاتهامات. ويوضح, أن النظام الأساسي الذي يمثل دستور المحكمة والاتفاقية المبرمة بين لبنان والأممالمتحدة التي تحدد نظام وهدف المحكمة تدحض هذه الاتهامات, ويبرر ذلك بأن النظام الأساسي وضع ضمن تشكيل هيئات المحكمة مكتبا للدفاع, علي أن يكون هذا المكتب مستقلا لمساعدة المتهمين علي توفير محامين عنهم, وهذا المكتب وفقا للنظام الأساسي يحوز نفس المركز القانوني لمكتب المدعي العام علي قدم المساواة وغير موجود في سائر الأنظمة الأساسية للمحاكم الدولية الخاصة السابقة, ومعني ذلك أن النظام الأساسي قد وفر للمتهمين ضمانات الدفاع. ويضيف, أن كل المحاكم السابقة حازت أسبقية علي الأنظمة القضائية للدول المعنية ماعدا المحكمة الدولية الخاصة بلبنان, ومن ثم فهي لا تستطيع أن تصدر أوامر الاستجواب أو الاستدعاء أو الاعتقال أو مثول الشهود أمامها لغير حملة الجنسية اللبنانية من دول غير الدولة اللبنانية, كما أن أوامرها بشأن اللبنانيين تمر عبر النائب العام اللبناني. وحول ما أثير بشأن تشكيل ثلثي هيئة المحكمة من قضاة غير لبنانيين( دوليين), وثلث لبنانيين فقط, والمطالبة بأن يكون جميع القضاة وطنيين ومقارنة ذلك بحالة المحكمة الدولية الخاصة بكمبوديا في جرائم عصابات الخمير الحمر, يقول سلامة: إن حالة كمبوديا لا يقاس عليها, وقد رضخت الأممالمتحدة لطلب حكومة كمبوديا لأن المفاوضين معها حول إنشاء المحكمة كانوا هم أنفسهم قياديين سابقين في الخمير الحمر وأصروا علي ذلك, لكن مجلس الأمن من جانبه أصر علي أن يكون صدور القرار بالأغلبية الكاسحة, وبشرط أن يؤيده القاضي الدولي( الوحيد) بالمحكمة. ويضيف, أن حالة كمبوديا حالة شاذة, والفقه الإسلامي يقول إن ماندرليس له حكم. وحول اعتبار سياسيين لبنانيين قول المدعي العام للمحكمة دانيال بلمار, أنه قطع وعدا للضحايا بتحقيق العدالة وأن ذلك كلام في السياسة وليس في القانون؟!.. يري سلامة, أن كلام بلمار قانوني بحت, فهو كرجل قضاء يقيم وزنا لحقوق الضحايا, ويؤكد أن المجتمع الدولي لن ينكر حقوقهم في الكشف عن الحقيقة في هذه الجريمة الإرهابية. وفي شأن اتهام المحكمة حقوق المتهم الواردة في المواثيق الدولية المختلفة وعلي رأسها العهدان الدوليان للحقوق المدنية والسياسية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي ينص علي ضرورة عقد المحاكمات سواء وطنية أو دولية علانية وفي حضور المتهم؟!.. يري سلامة, أن النظام الأساسي للمحكمة أدرك منذ البداية أن السياق العام للنظام اللبناني يجعل من الصعب مثول المتهمين أمام المحكمة, ومن ثم أتاح إمكان محاكمة المتهمين غيابيا حتي تستطيع المحكمة أن تحقق الهدف من إنشائها وهو كشف الحقيقة سواء تمت محاكمة المتهمين حضوريا أم غيابيا. العمل القادم للمحكمة: بعد تسلم المدعي العام دانيال بلمار مسودة القرار الاتهامي إلي قاضي الاجراءات التمهيدية دانيال فرانسين الاسبوع الماضي ما هي الخطوات القادمة؟.. يجيب الدكتور سلامة: أن القرار الاتهامي لا يكون مفسرا ولكن مقتضبا ويشترط فيه تعيين المتهمين بأسمائهم, وهو قرار ليس ملزما لقاضي الاجراءات التزاما مطلقا بل مجرد توجيه وإرشاد حيث للقاضي أن يقبله أو يعيده للمدعي العام إذا كان ما في القرار من وجهة نظر القاضي غير كاف ويحتاج إلي استيفاء وأدلة إضافية خلال فترة زمنية جديدة. ويضيف, أن القرارليس نهاية المطاف, وإنما هو الخطوة الأولي للمحاكمات, وإذا تضمن القرار اسم متهم أو عدد من المتهمين فهذا لا يعني أن المحكمة ستقوم بحصر ولايتها علي هؤلاء وحسب فربما تكون تلك الأسماء هي الكاشفة عن الأمر بارتكاب الجريمة أو المحرض, أو المتآمر أو المشارك أو المساعد لارتكابها, فالأسماء الواردة في القرار ربما تكون هي التي نفذت ذلك. واستطرد: عند صدور القرار الاتهامي سيوجه إلي الحكومة اللبنانية مرفقا بطلب اعتقال المتهمين من قبل السلطات اللبنانية. ويضيف, أنه في حالة استحالة اعتقال المتهمين فانه ستتم محاكمتهم غيابيا حتي تصدر الأحكام, وفي هذه الحالة أيضا فإن الدولة اللبنانية مسئولة عن تنفيذ الأحكام.