استطاعت ثورة يناير الجسورة بناء علي خيال سياسي واسع الأفق وتصميم جماهيري فريد مورس في سياق مظاهرات مليونية حاشدة لم تشهد لها مصر, ولا العالم العربي كله مثيلا لها علي الإطلاق الإطاحة بالنظام القديم الذي رأسه الرئيس السابق حسني مبارك في أسبوعين! ويمكن القول إن تتبع الأحداث الدرامية للثورة منذ نشوبها يوم25 يناير حتي يوم تنحي الرئيس السابق بكل ما حفلت به من هتافات وشعارات وتصاعد في المطالب من شأنه أن يثير الدهشة حول عظم المكاسب التي حققتها الثورة في هذا الأجل القصير. ولا ينبغي إطلاقا في هذا المجال إغفال الدور البطولي الذي قامت به جماعات الشباب الثائر في التظاهر المستمر, ولا في التضحيات الغالية التي بذلوها عن طيب خاطر في حب مصر, والتي تمثلت أساسا في الشهداء الأبرار والجرحي الذين سقطوا برصاص الغدر في معركة الحرية, التي أصبحت نموذجا عالميا يحتذي في مجال نضال الشعوب من أجل تحررها من رقعة الاستبداد سعيا وراء الحرية الكاملة والديمقراطية الشعبية. اندفعت الثورة إذن تدك حصون السلطوية الراسخة وتساقطت رموز النظام القديم الفاسدة, والتي أساءت استخدام السلطة السياسية, وأخطر من هذا أنها قامت من خلال شبكات فساد واسعة المدي بنهب المال العام بطرق متعددة. والواقع أن مانشر عن وقائع الفساد وتنوع صوره والذي استمر طوال ثلاثين عاما يفوق أي خيال! ليس فقط من ناحية تنوع صورة, وحجم الأموال المهولة التي تم نهبها, ولكن أيضا من زاوية المخالفة المنهجية للقانون, والاستهانة بكل أجهزة الرقابة وغياب الشفافية وتهاوي قواعد المحاسبة. لقد باغتت الثورة أقطاب النظام القديم, وأدي تنحي الرئيس السابق وتولي المجلس الأعلي للقوات المسلحة السلطة العليا في البلاد إلي إصداره قرارات ثورية تحقيقا لعديد من مطالب الثورة, التي أيدها وحماها في أخطر لحظات حققها. ولعله من الإيجابيات التي لابد أن تذكر بفخر للقوات المسلحة المصرية وقيادتها أنها انحازت إلي صف الثورة وتبنت مطالب الجماهير, وكان لها دور فاعل في دفع الرئيس السابق إلي التنحي, مما سمح للمسار الثوري أن يشق طريقه إلي المستقبل. وهنا نصل إلي المشكلة الجوهرية التي أصبحت تواجه المجتمع المصري في الوقت الراهن علي مستوي النخب السياسية وعلي مستوي الجماهير في نفس الوقت هل نسعي إلي ثورة مستقرة تؤمن بأن الأهداف الثورية لايمكن إطلاقا تحقيقها دفعة واحدة وفي مدي قصير, أم تتجه إلي ثورة مستمرة بحيث لاتختفي المظاهرات المليونية بل تنعقد كل يوم جمعة للضغط علي المجلس الأعلي للقوات المسلحة, للتنفيذ الفوري للمطالب الثورية, كما يراها ائتلاف تشكل بصورة ما لبعض الجماعات التي شاركت في التخطيط للثورة وفي تنفيذها؟ هذه هي المشكلة التي ينبغي أن تواجه بكل حكمة الشعب المصري الذي احتضن الثورة منذ قيامها حتي الآن, وليس من السهل فحص أبعاد المشكلة بغير سرد وجيز للموقف السائد في البلاد الآن. تتجه لمؤامرة مجهولة الأطراف, وبعد اصطدام قوات الشرطة مع المتظاهرين في ميدان التحرير واعتدائها غير المشروع عليهم وانسحابهم من الميدان بعد أن تغلب الشباب علي القوة بالتصميم, انسحبت قوات الشرطة في وقت واحد من مواقعها في كل أنحاء البلاد, وفتحت أبواب السجون ليخرج منها المجرمون والمحكوم عليهم عموما ليعيثوا في الارض فسادا, وأصبح الموقف الأمني في البلاد في منتهي الخطورة. وأدي غياب قوات الأمن إلي أن يشكل الأهالي لجانا شعبية للحراسة في مختلف الأحياء. غير أنه بالاضافة إلي غياب الأمن والحوادث الجسيمة في الاعتداء علي الممتلكات والأرواح التي ترتبت علي ذلك قامت في نفس الوقت مظاهرات مطلبية متعددة في المصانع والشركات والبنوك والمصالح الحكومية وكل مظاهرة ترفع شعارات تنادي بالحقوق المهدرة وتطلب رفع الأجور والمرتبات أحيانا بحق وأحيانا بغير حق. وقد أدي هذا الموقف إلي شلل اقتصادي خطير وخصوصا بعد أن توقفت السياحة, وساد القلق مجال الأوساط الاقتصادية. وقد حاول المجلس الأعلي للقوات المسلحة بناء علي مشاورات وثيقة مع عدد من الشخصيات العامة والخبراء مواجهة الموقف من خلال إصداره قرارات حاسمة قضت بتحقيق عديد من مطالب الثورة وأهمها إلغاء مجلسي الشعب والشوري وتعليق العمل بالدستور واصدار اعلان دستوري وتشكيل لجنة لتعديل مواد الدستور بما يوسع من إطار المشاركة السياسية, وتشكيل لجنة لتقصي الحقائق في مسألة اطلاق النار علي المتظاهرين واختفاء الأمن. كما أنه صدرت عديد من القرارات تتعلق بمواجهة ظاهرة الفساد وتولي النائب العام اصدار قرارات بالقبض علي عديد من الوزراء السابقين المتهمين بالفساد بالاضافة إلي عديد من رجال الأعمال الي غرقوا من قبل في مجال نهب أراضي الدولة. وكذلك أعيد تشكيل وزارة أحمد شفيق وأصبحت وزارة ائتلافية بعد أن ضم لها شخصيات من حزب الوفد وحزب التجمع. وقرر المجلس الأعلي للقوات المسلحة أن تكون الفترة الانتقالية ستة أشهر يتم فيها الاستفتاء علي مواد الدستور المعدلة وإجراء انتخابات مجلسي الشعب والشوري والانتخابات الرئاسية وذلك علي أساس أن رئيس الجمهورية الجديد سيتولي مهمة تشكيل لجنة تأسسية لوضع دستور جديد يفتح الآفاق الديمقراطية كلها أمام جماهير الشعب. غير أن فريقا من الشخصيات العامة التي قفزت علي الثورة رفضت فكرة استقرار الثورة وفق المسار الذي ذكرناه وتدعو إلي الثورة المستمرة من خلال تصورات سياسية متطرفة تريد إملاءها علي المجلس الأعلي للقوات المسلحة واستطاعت هذه الشخصيات أن تجذب إليها فريقا من الشباب الثائر وتدعوهم إلي عدم التوقف عن التظاهر إلي أن يخضع المجلس الأعلي للقوات المسلحة إلي املاءاتهم التي ليس عليها اجماع بين صفوف النخبة السياسية والمثقفة ولا بين الجماهير. لقد رفع شعار بضرورة اسقاط حكومة أحمد شفيق لسبب واه مقتضاه أنه سبق له أن حلف اليمين امام الرئيس السابق ولأن الوزارة التي أعاد تشكيلها مما جعلها وزارة ائتلافية غير مقبولة لأنهم يريدون حكومة تكنوقراط تتولي تسيير شئون البلاد في المرحلة الانتقالية وذلك بدون أن يبينوا حكمة هذا الاختيار. وبالاضافة إلي ذلك ضرورة أن يتخلي المجلس الأعلي للقوات المسلحة عن سلطاته إلي مجلس رئاسي مكون من عضو عسكري وثلاثة اعضاء مدنيين يتولي إدارة شئون البلاد طوال المرحلة الانتقالية وأكثر من ذلك إطالة الفترة الانتقالية لتصبح علي الأقل عامين حتي يتاح للاحزاب السياسية الجديدة أن تنشأ وتعمل وسط الجماهير. بعبارة موجزة هذا الاتجاه ضد فكرة الثورة المستقرة التي تساعد علي معالجة الوضع الاقتصادي المتردي وإعادة قوات الأن إلي مواقعها واضفاء جو من الاستقرار علي البلاد بما يسمح للعالم الخارجي من التفاعل السياسي والاقتصادي مع مصر سعيا وراء تجديد السياسة الاقتصادية وبث الثقافة من جديد في قدرة الاقتصاد المصري علي التعافي من الأزمة الطارئة التي ألمت به. علي العكس تماما فإن أنصار الثورة المستمرة لا يشعرون بأي مشكلة في المخاطر التي يمكن أن تترتب علي استمرار الأوضاع الثورية ولذلك هم ينادون باستمرار المظاهرات المليونية حتي تتحقق المطالب الثورية التي يرتفع سقفها بلا نهاية كل يوم بتشجيع من السياسيين المحترفين الذين ليس لهم مصلحة في استتباب الأوضاع بل إنهم يريدون في الواقع الوقت اللازم لترتيب الأوضاع لصالحهم حتي إذا جاء أوان الانتخابات النيابية بل والانتخابات الرئاسية تكون اتجاهاتهم السياسية هي التي ستكسب الرهان. نحن في الواقع في حاجة إلي ثورة مستقرة تنفذ المطالب الثورية بهدوء وبطريقة متدرجة ليس فيها اندفاع غير محسوب ولا مغامرات سياسية خطيرة. وليس لدينا شك في أن مزاعم الثورة المستمرة من شأنها أن تجلب مزيدا من المخاطر علي نجاح الثورة في تحقيق مطالبها المشروعة التي تعبر في الواقع عن مطامح الشعب المصري في بناء دولة ديمقراطية تقوم علي أساس الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية والأصالة الحضارية.