الأسبوع الماضى كان أسبوع السواطير المسنونة المسلطة على أى سياسى فى بريطانيا، مهما يكن، تسول له نفسه انتقاد إسرائيل. الضحية هذه المرة هى نسيم شاه، السياسية المسلمة الشابة النائبة فى مجلس العموم عن حزب العمال المعارض. فى ذروة حرب إسرائيل على غزة عام 2014، أى قبل عام من انتخابها لعضوية المجلس، استجابت شاه لمشاعرها الإنسانية التى هزتها صور القتلى الفلسطينيين البشعة. وعلى فيسبوك، أيدت السياسية العمالية، الشهيرة باسم ناز، مشاركة تحمل جرافيك يضع إسرائيل على خريطة أمريكا، وعليها عنوان يقول حل الصراع بين إسرائيل وفلسطين - نقل إسرائيل إلى أمريكا، ورافق ذلك تعليق يقول المشكلة حُلت. فجأة نُبش فى تاريخ النائبة. وأخرج سجلها على فيسبوك، واتهمت بالعنصرية والعداء للسامية. فأقرت بكل العبارات، فى البرلمان وخارجه، بالندم والغباء. ونشرت مقالا فى صحيفة الأخبار اليهودية من 408 كلمات اعتذرت فيه أربع مرات بكل ألفاظ اللغة الانجليزية. ولم يشفع كل هذا لها. فاضطر حزب العمال إلى تجميد عضويتها وحرمانها من أى نشاط حزبى لحين انتهاء التحقيق معها. وعندما دافع عنها كين ليفنجستون، عمدة لندن السابق المعروف بانتقاده للسياسات الإسرائيلية، واعتبر تعليقاتها مجرد نقد لإسرائيل، رافضا اعتبارها عداء للسامية، رفعت له السواطير، وجُمدت عضويته هو الآخر فى حزب العمال. واتهم بتبرير سلوك النازي، وتشويه سمعة الحزب. لم يكف هذا. فقط طالب مؤيدو إسرائيل بأن يكون التأديب هناك فى الدولة التى أخطأت ناز فى حقها، وبأن تزور متحف الهولوكست، فى القدس، وتتعلم مبادئ مكافحة العداء للسامية أى لإسرائيل. ذبحُ ناز السياسى بهذه الطريقة جاء فى وقت تستعد فيه المنظمات المؤيدة للفلسطينيين فى بريطانيا لإحياء الذكرى ال68 لنكبتهم وطردهم من أرضهم وبيوتهم. ذكرى النكبة هذا العام ليست كسابقاتها فى بريطانيا. فهى تحل مصحوبة بحملة لتخويف المتعاطفين مع الفلسطينيين والمؤيدين لهم وترهيبهم باتهامات بالعنصرية والعداء للسامية ولليهود. غير أنه كلما اشتدت الحملة، التى امتدت لتشمل محاولات إجهاض مقاطعة إسرائيل اقتصاديا وثقافيا، اشتد التأييد للفلسطينيين فى بريطانيا، الذى بدا أنه أكبر بكثير من نظيره حتى فى الدول العربية، خاصة بعد حروب إسرائيل على غزة وزيادة بناء مستعمراتها فى فلسطين. فبمناسبة ذكرى النكبة تترقب الحكومة البريطانية ومؤيدو إسرائيل فى بريطانيا أسبوعا مزعجا، يعيد تصوير مآسى الفلسطينيين طوال العقود السبعة الأخيرة، ويكشف نفاق السياسة البريطانية تجاه فلسطين والعدالة وحقوق الإنسان. بدلا من الهجوم على المدافعين عن حقوق الإنسان، يجب على الحكومة البريطانية أن تواجه إسرائيل التى تخرق أفعالها القانون الدولي، تقول حملة التضامن مع فلسطين التى تنظم أسبوع التوعية بالنكبة فى بريطانيا. عندما وقف ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني، أمام مجلس العموم، ليهاجم ناز، بدا غاضبا من تأييدها لنقل الإسرائيليين إلى أمريكا، واعتبر ذلك عنصرية وعداء للسامية يستدعى المكافحة الحاسمة. ولم يشر من قريب أو بعيد إلى التطهير العرقى للفلسطينيين وهدم إسرائيل منازلهم فى الأراضى المحتلة كى يستعمرها اليهود من أنحاء العالم، (وهو يعلم مثلا أن بنيامين نتنياهو مولود لأب بولندى وأم أمريكية، وهو أول سياسى مولود فى إسرائيل يتولى هذا المنصب. أما سابقوه فليس لهم أصل فى فلسطين). فى ذكرى النكبة، تستدعى حملة التضامن مع فلسطين تقرير الخارجية البريطانية السنوى عن حقوق الإنسان فى العالم، وانتقادات المسئولين البريطانيين واتهاماتهم لدول مثل مصر وتونس ودول الخليج بقمع المجتمع المدني، فى حين أنها ترهب منظمات هذا المجتمع لمجرد أنها تتجرأ على نقد إسرائيل والدعوة لمقاطعتها. تُذكر الحملة الحكومة البريطانية وتثير وعى البريطانيين بملخص تاريخ فلسطين الحديث والحقائق التالية عن الفلسطينيين التى لم يعد حتى العرب يتحدثون عنها: فى عام 1948، طُرد 750 ألف فلسطينى بالقوة المسلحة والترهيب من منازلهم لإقامة إسرائيل، ومحيت 500 قرية وبلدة فى حملة منظمة، ولم يُمكن أصحابها الفلسطينيون من العودة إليها حتى الآن. اقترفت الميليشيات الصهيونية الإرهابية، التى تحولت لاحقا إلى جيش الدفاع الإسرائيلى مذابح لن ينساها التاريخ أشهرها فى دير ياسين. ولم تتوقف حملات تطهير العرق الفلسطينى حتى اليوم، ففى خلال الشهور الأربعة الأولى فقط من العام الحالي، دمرت قوات الاحتلال الإسرائيلى 566 منزلا فلسطينيا، تعادل أربعة أضعاف عدد المنازل الفلسطينية المدمرة خلال عام 2015 كله. وتبنى إسرائيل مستعمرات فى الأراضى المحتلة، المسروقة من أصحابها، يعيش فيها الآن 650 ألف يهودى مستقدمين من كل بقاع العالم. وبنت إسرائيل سورا عنصريا عازلا يمتد 500 كيلو مترا محاصرا القرى والبلدات الفلسطينية. والعام القادم، يمر نصف قرن على احتلال القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، كما تمر عشر سنوات على حصار الجيش الإسرائيلى الخانق المدمر لحياة قرابة مليونى فلسطينى فى القطاع. ماذا تفعل بريطانيا، ذات المسئولية التاريخية المعروفة عن نكبة الفلسطينيين، إزاء هذه النكبة المستمرة لحوالى سبعة عقود تدفق خلالها الملايين من يهود العالم لاستعمار أراضى الفلسطينيين؟ تقول بريطانيا: الاستيطان غير شرعي، حل الدولتين، الذى تؤيده كل الأحزاب السياسية البريطانية بما فيها حزب المحافظين الحاكم، هو أفضل سبيل لتسوية الصراع، إسرائيل محمية وحليف استرايتيجى له كل الدعم لا يجب أن يمس، ونقدها علنا أو الضغط عليها لإعادة حقوق الفلسطينيين لن تفيدا. على مستوى الأفعال، تقدم الحكومة البريطانية حوالى 85 مليون جنيه استرلينى سنويا لدعم منظمة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين أنروا ودعم السلطة الفلسطينية فى رام الله. وفى المقابل، تقدم كل أشكال الدعم العسكرى والأمنى والسياسى لإسرائيل، وتبذل كل ما تستطيع، علنا، للقضاء على معارضيها ومواجهة حملات مقاطعتها فى بريطانيا. وأى معارض لسياسات إسرائيل العنصرية المخالفة للقوانين الدولية والإنسانية العالمية هو بالضرورة عنصرى ومعاد للسامية يجب ذبحه قانونيا وسياسيا. وهذا المناخ الحاضن لإسرائيل، التى يحمل بعض البريطانيين جنسيتها ويحاربون فى جيشها، يمتد حتى أروقة مجلس العموم الذى كانت سياسة بريطانيا تجاه إسرائيل وفلسطين إحدى قضاياه الشاغلة عام 2015. فوثائق المجلس تعتبر الوجود العسكرى والاستعمارى الإسرائيلى فى فلسطين سيطرة وليس احتلالا يرهب ويدمر حياة ملايين البشر، بينما تستنكر التاريخ الطويل من الهجمات الإرهابية ضد المدنيين الإسرائيليين. مواجهة هذا المناخ هى، منذ سنوات، هدف حملة التضامن مع فلسطين وأنصارها الكثيرين فى بريطانيا. واختارت الحملة أن يكون شعار ذكرى تطهير فلسطين عرقيا هذا العام هو لن ننسي، لتنتهى النكبة الآن، الحرية لفلسطين. وسُيترجم هذا الشعار فى فعاليات تستمر سبعة أيام، باسم أسبوع العمل لمواجهة النكبة، يخاطب ضمائر البريطانيين بعد أن خيم الموت على ضمير حكوماتهم تجاه المأساة الإنسانية فى فلسطين.