تثبت الأيام أن كثيرا من العلماء الغربيين وقعوا في أخطاء قاتلة, إما عن عمد أو جهل لمصلحة فكرة مشروع فليكوفسكي لتزييف التاريخ المصري, وذلك الأثر يمكن أن نستشفه من حوادث مثل كشط خرطوش الملك خوفو أو رسم نجمة داوود علي أحجار أحد المعابد القديمة في حادثة فريدة الدلالة وخطيرة المعني, وكأنه لم تكن تكفي سبعة كتب لإثبات صحة نظرياته المتوهمة وكتابة لتشويه معارضيه. محاولات تهويد رموز الحضارة المصرية, محاولات عديدة ومستمرة أبرزها محاولات تهويد أهرامات الجيزة بادعاء أن بناة الأهرام من أبناء شعب الله المختار, والحقيقة أن كل هذه الآراء هي مجرد أقوال يمكن أن تعدها من قبيل الثرثرة, لم يحاول أصحابها وضعها في نسق فكري أو إطار تنظيري, هي أقل من من الجهد الذي بذله فليكوفسكي في سلسلة كتبه التي أطلق عليها عصور في فوضي. فنحن مع فليكوفسكي مع نظرية متكاملة لتهويد التاريخ المصري القديم, إن لم يكن تاريخ الشرق الأدني القديم بكامله. لقد انتهي فليكوفسكي من كتابه أوديب وأخناتون أوائل عام1940, وعلي غير المتوقع أجل نشره عشرين عاما ليصدره عام1960, بعد نشر ثلاثة من كتبه تمثل بداية مشروعه عصور في فوضي هي من الخروج إلي الملك اخناتون, عوالم في تصادم, الأرض في اضطراب, هكذا جاء أوديب وأختاتون الرابع في ترتيب النشر, ثم يأتي من بعده شعوب البحر, رمسيس الثاني وعصره, وتمثل هذه السلسلة نظريته في إعادة ترتيب القوائم الزمنية لتاريخ مصر وتاريخ الشرق القديم. هذا المشروع عصور في فوضي, هو محاولة نظرية لضبط مسلسل أحداث التاريخ المصري مع إيقاع التاريخ الإسرائيلي الذي يقف بلا شواهد تاريخية تؤكد مصداقيته, بغرض واحد هو اختلاق تاريخ وضعي لليهود. الفكرة الأساسية لفليكوفسكي في كتابه من الخروج إلي الملك أخناتون, تؤكد تزامن ملوك الأسرة الثامنة عشرة المصرية مع ملوك المملكة الإسرائيلية المتحدة, فعصر أحمس الأول يتزامن مع عصر شاؤول وداوود, عصر حتشبسوت هو عصر سليمان, وهكذا التاريخ الذي يقول به فليكوفسكي يمثل مشكلة كبري, فطن إليها بالطبع, فلقد عاش ملوك بني إسرائيل في القرن العاشر قبل الميلاد كما هو ثابت في التاريخ الإسرائيلي, أما طرد الهكسوس علي أيدي أحمس الأول وبداية الدولة الحديثة فقد وضعه التاريخ الثابت عام1580 قبل الميلاد, أي في القرن السادس عشر قبل الميلاد, مما يترك فجوة مقدارها ستة قرون غير مفسرة ومجهولة, بين التاريخين المصري والإسرائيلي, فأي تاريخ يجب أن نحركه لنغطي تلك الفجوة!؟؟ أي التاريخين نصدق؟.. فإما أن ستمائة عام قد اختفت من تاريخ الشعب اليهودي, وإما أن الستمائة عام قد ضوعفت أو أضيفت إلي تاريخ مصر, فمن المستحيل أن يكون التاريخ في أورشليم هو القرن العاشر قبل الميلاد, ويكون في الوقت نفسه هو القرن السادس عشر قبل الميلاد في مصر, ويؤكد فليكوفسكي أن بعض حلقات التاريخ المصري قد وصفت مرتين, وأن الستمائة عام الزائدة قد نتجت عن هذا التكرار, وأن الخطأ غير موجود في التاريخ ذاته بل في التأريخ, وينتهي فليكوفسكي إلي أنه لابد من اختصار ستمائة عام علي نحو التقريب من زمن المملكة الحديث, وأخذ علي عاتقه إعادة ترتيب أحداث التاريخ القديم, كيفما مال به الهوي, حتي يصح التاريخ الذي يقول به ولا يقول به أحد غيره, ولا تؤيده لا البحوث الأثرية ولا المنطق ولا علماء المصريات في مختلف دول العالم. يرتكز مشروع فليكوفسكي علي افتراض أساسي وجوهري وضروري, حتي يصح تاريخه هو وجود روابط قوية وواضحة بين التاريخ المصري والتاريخ الإسرائيلي, والمشكلة كما يحددها فليكوفسكي أن السجلات المصرية لا تورد أي ذكر لليهود, كما لم تذكر مصر في قصص التوراة طوال فترة حكم القضاة, ومن خلال الوثائق القديمة في مجملها لا يوجد أي ارتباط حقيقي ومباشر بين تاريخي مصر وفلسطين( ؟؟), علي الرغم من انتماء مسألة خروج اليهود من مصر إلي التاريخين المصري واليهودي, مما يعد ارتباطا مباشرا بينهما, وانصرف اهتمام فليكوفسكي للبحث عن هذه العلاقات أو اختلافها, بتهويد التاريخ الطبيعي للعالم, هذا البحث الذي أفرد له كتابين من كتبه عوالم في تصادم والأرض في اضطراب. في رأي فليكوفسكي أن التوراة أبرزت الخروج كحدث عنيف صاحبته كوارث طبيعية مدمرة, معتبرا هذه الكوارث بديلا واقعيا للمعجزات الدينية, ثم آل علي نفسه أن يبحث في السجلات المصرية عن أثر لهذه الكارثة الطبيعية التي افترض حدوثها, وعثر علي بغيته بعد مسح شامل للآثار المصرية في بردية أيبو ور, مؤكدا أن النص الوارد بالبردية والنص الوارد في سفر الخروج, يتحدث كل منهما بتطابق كامل عن الحدث نفسه والكارثة نفسها, وكانت الخطوة الثانية أمام فليكوفسكي أن يحدد زمن كتابة بردية ايبو ور ليصل إلي تحديد الزمن الذي خرج فيه اليهود من مصر, وبالتالي السنة التي بدأ عندها التاريخ الإسرائيلي, وبالتالي يتمكن من بناء تاريخه الوهمي لبني إسرائيل بتهويد التاريخ المصري. ما هي طبيعة هذه الكارثة الكونية التي أسهب في وصف مراحلها في كتابه عوالم في تصادم؟, ذهب فليكوفسكي إلي تحرك مذنب تكون بشكل ما في منظومة كوكب المشتري, يصطدم هذا المذنب بالأرض والمريخ, ويترتب علي هذه الكارثة اضطراب المسار الأزلي لكوكبنا, تغير الأرض طبيعة دورانها, ويختل محور الأرض الذي تدور حوله, وتتبدل الجهات الأصلية فيصبح الشمال جنوبا والشرق غربا, ويعم ليل طويل, تلف الأرض الأعاصير وتغرق في الفيضانات, و... و...., استمرت هذه الاضطرابات الطبيعية الكونية حتي استقر المذنب في مدار شبه دائري متحولا إلي كوكب الزهرة, أدت هذه الكارثة الكونية ضمن ما أدت إليه إلي انشقاق البحر الأحمر, فينتهز موسي والإسرائيليون الفرصة, ويعبرون البحر فرارا من الفرعون, وكذلك توقفت الأرض عن الدوران بأمر من يشوع بن نون, حين قال أمام عيون إسرائيل يا شمس دومي علي جبعون ويا قمر علي وادي ايللون, فدامت الشمس, ووقف القمر. حين رفض العلماء نظرية فليكوفسكي في عوالم في تصادم أردفه بكتابه الأرض في اضطراب محاولت البحث عن الأدلة الجيولوجية التي تؤكد صحة نظريته. وكما كان لفليكوفسكي توراته الخاصة, كانت له أيضا برديته الخاصة, التي تختلف عن بردية ايبو ور التي تصف أحداث ثورة سياسية وكارثة اجتماعية, وليس كارثة طبيعية, ولكن كيف يمكن للبشرية أن تتجاهل في وثائقها كارثة كونية هائلة بهذه الآثار والنتائج المصيرية, حدثت في منتصف الألف الثانية قبل الميلاد فحسب, هذا ما عالجه في كتابه البشرية تفقد الذاكرة, فمثلما يلجأ الفرد إلي ميكانيزمات مختلفة كي يبقي المادة الصادمة التي يود نسيانها في ظلام الكبت, تفعل الإنسانية جمعاء. هكذا في كل كتبه, سواء التي تعرض فيها للتاريخ السياسي, من الخروج إلي الملك اخناتون, شعوب البحر, رمسيس الثاني وعصره, بالإضافة إلي أوديب وأخناتون, أو التي تعرض فيها للتاريخ الطبيعي عوالم في تصادم, والأرض في اضطراب, والتي اختتمها جميعا بكتابه البشرية تفقد الذاكرة لم يغفل فليكوفسكي لحظة واحدة عن الهدف الذي تتوتر نحوه جهوده الفكرية كلها, من البداية للنهاية, تهويد التاريخ, وأخيرا أتحفنا فليكوفسكي بكتابه المتطلعون إلي النجوم وحفارو القبور, الذي هاجم وشوه فيه كل الآراء التي عارضت أو اختلفت مع نظريته, واصفا أصحاب تلك الآراء بحفاري القبور, بينما هو ومن شايعه في تهويماته هم المتطلعون إلي آفاق النجوم. لماذا الاهتمام بأعمال ايمانويل فليكوفسكي, ترجمة وتحقيقا ونقدا؟؟, يكفي أن فليكوفسكي يعد مؤسسا ورائدا لتيار نظري يستهدف توظيف التاريخ المصري القديم, لاختلاق تاريخ موثق موغل في القدم لإسرائيل, وليس أدل علي أهمية هذا التيار الذي يمثله, من أنه لم يتوقف بعد وفاته, واستمر علي أيدي تلامذته ومعاونيه وأشياعه, خاصة وقد أصبح لهذا التيار مجلته التي تواصل استكمال مشروعه الفكري, سميت باسمه الفليكوفسكية بدأ صدورها بصفة منتظمة ربع سنوية اعتبارا من العام1993 م. ألا يجعلنا ذلك ننتبه ونهتم... متابعة.. وتحقيقا.. ونقدا؟؟؟