منذ أكثر من عقدين من الزمان في أحد المؤتمرات الهندسية ذكرت أن أغلب أساتذة الجامعات لا يستطيعون ممارسة ما يدرسونه, وطبعا انتقدني البعض وغضب مني آخرون; ولكنني مازلت أكرر نفس المقولة منذ ذلك الحين. وحتي لا نتوه في زحام الفلسفات دعوني أذكر أن معدلات التنمية في المجتمع لا ترقي لمستوي الأصيل من ثقافتنا ولمستوي طموحاتنا وهو ما تشير إليه بوضوح صارخ مؤشرات التنمية الصادرة عن المنظمات الدولية قاطبة! وحتي نكون منصفين لابد من الإشارة إلي أن النظام السياسي عليه معول مهم في المستوي المتدني لمؤشرات تنمية مجتمعنا ولكنه حتي نكون منصفين أيضا ليس هو المسئول الوحيد عن حالتنا التنموية المتردية. وما وصلت إليه نظرة المجتمع للجامعة وأساتذتها ما هو إلا انعكاس لضعف ما تعطيه الجامعة للمجتمع وللمستوي غير المرضي الذي يسلكه بعض(!) أساتذة الجامعة. وبعيدا عن الفلسفات وتضاداتها يمكننا ملاحظة أن القطاع الهندسي في أي مجتمع يمثل واجهة مختلف مناشطه باعتباره الجانب التطبيقي الصريح والواضح لتلك المناشط, وهو ما يضع مسئولية أكبر علي من ينخرطون فيه. وحتي لا نتوه في سياق الجدل دعونا نتفكر في حجم التبجح الذي وصل إليه البعض, فبعد انهيار كوبري جامعة سوهاج طالعتنا الأخبار بإعلان رئيس هيئة الطرق أن ازدياد سوء حالة الطرق يقلل من عدد حوادث المركبات, فالطرق المكسرة تجبر السائقين علي خفض سرعاتهم مما يقلل من نسب الحوادث. وبعد ذلك بأيام أكد المتحدث باسم هيئة الطرق والكباري, أن الطرق التي يتم إنشاؤها في مصر الآن تتفق مع المعايير العالمية, ولا تقل عن الطرق الموجودة في ألمانيا. وبعدها صرح وزير الإسكان والمرافق, بأن كوبري جامعة سوهاج الجديد سليم ولم ينهر كما تردد! وفي تلك المرثية: من نصدق؟ صورة الكوبري والشوارع أم الكلام أم ماذا؟ والعجيب أن المسئولين عن جودة مهنة الهندسة لم يتخذوا أي إجراء لتوضيح تلك الملهاة, لأن القطاع الهندسي جميعه متضرر من وجوده في هذا المشهد. ودعوني أوضح الصورة أكثر لأشير أن العديد من مشاكل المجتمع مرده تدني ممارسات القطاع الهندسي ومنه التعليم الهندسي والتقني. ورغم ما تطالعنا به الأخبار من وقت لآخر عن بعض العمليات الهندسية إلا أننا لا يمكننا أن ننخدع بأننا من نقوم بهذا فنحن لا ننتج علما أو تقنية هندسية في الغالب الأعم فالهندسة تصميم وإبداع وغالبيتنا منها براء, كما أن تعليمنا الهندسي ليس بالجودة المنشودة وغير المنشودة فلا معايير حقيقية لقياس جودة أي منتج ومن أهم تلك المنتجات الطالب والذي يتم تأهيله ليصبح مهندسا ليتخرج ولا يجد عملا هندسيا فيقبل بغير ما أهل له وتكون النتيجة تخريج بطالة مقنعة وتدور العجلة لينفض الطالب والأستاذ معا من ذاكرتهما التعليم الهندسي بل التعليم من أساسه. ودعونا ننظر في ممارسات المهندسين لنجدهم هم من يوافقون علي استيراد المعدات بتعليمات تشغيل بغير اللغة القومية فيحجبون مجرد مهارة التعامل مع الآلة عن العامل والفني بل وعن المهندس ذاته. ومن المضحكات المبكيات أن المهندس عندما يهندس الأمور يبدأ من واقع ليصل لواقع آخر افتراضي يراه رؤيا العين في مخيلته وفي معادلاته وفي أوراقه ولكننا لا نجد ذلك أبدا في مهندسينا فلا تصميم ولا تغذية مرتدة لتقييم العمل بل ولا لغة تجمع أطراف العمل الواحد من عامل وأسطي وفني ومهندس وخبير واستشاري وأستاذ بل تجد الطبقية قد نشبت أظافرها في العمل الهندسي والذي هو بالتعريف قطعة فنية علمية متكاملةلا تتجانس إلا من خلال لغة واحدة! أستاذ هندسة الحاسبات بجامعة الأزهر [email protected]