برحيل الاستاذ محمد حسنين هيكل, ينكسر العمود الأكبر في خيمة الصحافة والسياسة العربية, المثقلة بتبعات فوضي تضرب في الاعماق, وأزمة هوية تعكس انهيارا كبيرا ومروعا, يضرب اتساع الوطن من المحيط الي الخليج, وبرحيله ينفرط عقد كريم, شكل علي مدي عقود من الزمان, هوية أمة وضعتها يد الله في مواجهة تحديات كبري, وأحداث جسام. علي مدي اكثر من نصف قرن, قدم الاستاذ محمد حسنين هيكل, صورة مغايرة, ولعلها تكون الأصل, لما ينبغي أن يكون عليه المشتغل بمهنة القلم, ولعل تلك الصورة تفسر الي حد كبير ما حار في فهمه كثيرون, فقد اقترب من السلطة في مصر, علي نحو لم يقترب اليه أحد, لكنه ظل مترفعا عن شغل أي منصب رسمي, باستثناء مرة وحيدة, ولاعتبارات قال إن ظروفا قاهرة قد فرضتها عليه, فاحتفظ لنفسه بما اعتبره يليق برجل, دوره الرئيسي هو قراءة الاحداث واستشراف تطوراتها, والاشارة الي مواطن الخلل في رحلة الامم نحو مصائرها المحتومة. ولعل العلاقة التي ربطت الاستاذ هيكل بالزعيم الراحل جمال عبد الناصر, تعكس جانبا مهما من تلك الصورة, التي ظل حريصا عليها حتي أيامه الاخيرة, رغم أن قراءة مدققة للعديد من الوقائع والاحداث, بل والقرارات التي انتهي اليها الزعيم الراحل خلال فترة حكمه, التي استمرت لنحو ستة عشر عاما, تشي بأن هيكل كان مشاركا رئيسيا فيها, بل ولاعبا أساسيا في العديد من الاحداث الكبري التي مرت بها مصر, والتي جعلت منها اللاعب الرئيسي في محيطها العربي والافريقي. قدم هيكل علي امتداد مشواره مع الصحافة والسياسة, نموذجا تحول الي أيقونة لأجيال عدة كاتب هذه السطور من بينهم, برغم ما كانت تثيره آراؤه ومواقفه من جدل, كان يصل في كثير من الاحيان حد الخصومة, مثلما كان يصل حد التقديس عند البعض الآخر, لكنه ظل ما بين الفريقين, يشق مساره مثل نهر رقراق, في طريقه نحو المصب, غير عابئ بتخرصات المرجفين, ولا ملتفت لما يطلقه حوله كثير من المريدين من هالات التقديس. في ديسمبر الماضي أطل الاستاذ علي جمهوره عبر فضائية سي بي سي لمرة أخيرة, ليقدم عبر حلقتين قراءة شديدة العمق, لما يمر به الوطن العربي ومصر من أحداث وتقلبات, قبل أن يدخل بعدها بأسابيع الي أزمة صحية صعبة, استلزمت اجراء عمليات غسيل كلوي في منزله, وقد أدرك حينها وهو يدلف الي عامه الثالث بعد التسعين, أن قطار العمر المديد يتجه نحو محطته الاخيرة, فقرر أن يواجه الموت بجسارة تليق بمشوار عمر طويل, ظل خلاله ملء السمع والبصر. في أيامه الاخيرة, قرر هيكل أن يحتفي بالموت علي طريقته الخاصة, متحررا من خراطيم أجهزة الغسيل الكلوي, وكمامات التنفس الاصطناعي, فطلب من أسرته أن تعتذر بلطف من الراغبين في زيارته, ولم يستثن من ذلك أحدا حتي احفاده, ولعله أراد بذلك أن تظل صورته التي ألفتها العيون والافئدة, ببزته الانيقة وسيجاره الفاخر الذي لم يفارقه طيله مشواره المهني, محفورة في ذهن الملايين من تلاميذه وعشاقه ومحبيه, علي امتداد الوطن العربي. استأذن هيكل في الانصراف, واستسلم أخيرا بجثمانه النحيف, لاكتاف عشرات من تلاميذه ومريديه, لكنه حتما كان يدرك في نومته الاخيرة, أن كلمته التي أطلقها قبل سنوات, ولا يزال صداها يتردد في سنوات الخراب العربي, تنتظر اليوم الذي تلتقطها فيه أذن واعية وقلب جسور, عندما قال ذات يوم إن المواقف عظيمة.. لكن الرجال صغار.