أكثر ما استلفتني في خطاب الرئيس الأخير كان تناوله لتحدي مكافحة الفساد, وبالطبع الإرهاب, وهما شقي الرحي في منظومة تكسير المجتمع, وتركيع الدولة, واستجلاب الخراب في ربوع البلاد... ولأن الإرهاب بطبيعته يحمل الموت والتدمير, فمن البديهي أن ينتبه إليه الجميع, لأنه يصيب وبعنف مصالح البلاد والعباد في الوقت نفسه..مما يسهل حشد المجتمع ضده..علي عكس الفساد.. فالمؤلم في شأن الفساد, أنه وبالرغم من خطورة تأثيره علي المجتمع, إلا أنه قد أصبح صديقا للبيئة... إذ استوطن دواوين الحكم في ربوع المحروسة منذ عهود ليست قريبة... وبالقطع لا يسأل عن حالته المستعصية تلك لا الرئيس ولا الحكومة القائمة..لأن الرئيس قد تسلم مع السلطة, رصيد سخي و متجذر من الفساد السرطاني المخيف, الذي أنشب براثنه في دماء الوطن.. ليضيف إلي معاناة المصريين المتنوعة صنفا لا يقل ضراوة عن صنوف الضواري الأخري, مثل الفقر والجهل والمرض... أما خطورة أنه قد أصبح صديقا للبيئة المصرية, فهي غير خافية, فعندما طال مقامه بيننا, تحول من سلوك يستدعي المواجهة والبتر, إلي أمر لا تعافه النفوس..بل ربما.. قد تحول, بحكم غياب المحاسبية واستقواء الشر بالشر, إلي سلوك مثير للإعجاب, فأصبح البعض يتباهي بقدرته علي فعل ما يريد بمحل عمله, ومع مواطني مجتمعه, دون أن يخشي رقيبا أو يحمل بمسئولية, فتحول السلوك الفاسد إلي كيان مؤسسي, رسخ في الواقع..وكشر عن أنيابه..للحد الذي تقزمت أمامه فيه المخططات الشكلية الواهية كافة, التي أوجعت أسماعنا علي مدي عشرات السنين.. بمحاربة الفساد والرشوة والمحسوبية...حتي تحولت العبارة إلي لازمة مثيرة للتندر..لأنها أصبحت من مكونات الخطاب العام الرئيسية التي لا جدوي منها.. وتلك هي مصيبة الفساد, التي تجعله أكثر ضراوة من الإرهاب... فالفساد عندما تمكن لم نعد نراه مرضا عضالا بقدر ما اكتنفته آلفة مذمومة, كتلك التي اكتنفت قضية النظافة وانتشار القمامة في الشوارع...حتي اعتادت العيون عليها... رغم ما تشكله من أذ وقبح... نحتاج إلي أن يعاد تشكيل الوعي بخطورة الفساد... حتي يدرك كل مسئول في الدولة, إن كان مفسدا, أنه مجرم في حق مجتمعه, لن يقبل منه عملا ولا دينا ولا عدلا.. فالفساد أفسد عليه ضميره, وكدر عليه دنياه وآخرته.. نحتاج أن يدرك المجتمع المصري, الرسمي قبل المدني, أن الفساد آفة تدمر ولكن ببطء... تقتل الأمل لدي الشباب, وتزرع الضغينة بين طبقات المجتمع... وتبعد كل أمل في الإصلاح... مادامت الوجوه باقية, ولم تردع السلوكيات.... ولو تذكرنا أن مصر قد قامت بها ثورتان, لتحقيق العدالة والكرامة للمصري البسيط قبل غيره, لأدركنا خطورة قضية الفساد, كحائل مخيف, دون تحقيق الرضا المجتمعي عن أداء الحكم... وهو أساس الاستقرار والتفات الناس إلي العمل الجاد... يحتاج الرئيس لجزء ليس هينا من وقته اليومي لمتابعة ملف الفساد بكل جدية وحزم... في الوقت الذي يتعين فيه علي كل مصر أن تحتشد خلف دعوة الرئيس لمكافحة الفساد, ويجب علي رأس السلطة التنفيذية بالحكومة ألا يهدأ له بال, حتي تعمل سواطير الحساب عملها في أجساد تبلدت بالخطيئة, مهما علا شأنها.... لأنها قد سمنت علي الحرام, وتآلفت مع المكروه والعفن... يا سيادة الرئيس..حربك علي الفساد هي حرب مقدسة, لأنها إن نجحت, ستنقذ ملايين المصريين من الضيم والفقر والعوز... وستسهم في تحويل مصر من مجتمع مضطرب لمجتمع واثق بالانجازات, صابر حتي تتحقق, ضامنا أن كل مصري سيأتي عليه وقت قريب ليجد معاملة كريمة ومعيشة محترمة... نعم..تحتاج مصر اليوم أكثر من ذي قبل, وبعد ثورتين, أن تواجه غول الفساد... حتي يستقر المجتمع, ويرتدع المفسدون.... يجب علي المصريين, حكومة وشعبا, أن يعملوا بإخلاص وتجرد, ليفسحوا لوطنهم مكانا بين الأمم المستقرة والغنية في عالم اليوم...وكفانا مهانة وتراجعا.. آن الأوان لوأد الفساد حتي لا نخنق الأمل في المستقبل... محاضر القانون الدولي وحقوق الإنسان