ليس من بد من التعرض لحديث ليس طرب أو سعادة... إنه حديث الغلو في تقييم الأشياء والناس والظروف.... والغلو شيء بغيض... وهو مناف للطبيعة البشرية بلا جدال... فالله قد فطرنا علي السوية.. وكلفنا بديانات فيها الاعتدال والرحمة... ولم يحملنا ما لا طاقة لنا به.. رحمة بنا وإدراكا لوهن عزائمنا وتواضع قدراتنا... ولكننا ماذا فعلنا ؟ غالينا في كل شيء... ثم انتظرنا الحكومة أن تحيل حياتنا لنعمة وجنة الرضوان... والحكومة مسئولة, ولكنها عن سياسات وتنفيذها, وليس عن صنفرة أفكار الناس المغلوطة عن كل شيء... الحكومة مسئولة عن إصلاح التعليم..لكنها ليست قادرة علي إجبار الناس للذهب للمدرسة والتعلم بالقوة... الحكومة مسئولة عن البنية الأساسية, لكنها ليست قادرة علي ردع من يدمر هذه البنية كل يوم وليلة, بكل همة ونشاط... فتارة تدمر قوي التخريب أعمدة وأبراج الكهرباء,وأخري تستهدف خطوط الغاز, وثالثة تستهدف الحافلات والقطارات... ثم لا تزال الأصوات تعلو تطالب الحكومة بالاعتناء بمرفق النقل.. واستقرار الكهرباء.... سلوك متناقض بين التطرف والحاجة..يعكس واقعا مرا ومخيفا من الانفصال الحسي والإنساني والعقلي أيضا بين من يدمر ومن يشتكي.. وكلاهما من أبناء الوطن ونتاج التربة المصرية... الحكومة مسئولة عن إصلاح مرفق الصحة وعلاج المصريين... لكنها ليست قادرة علي ردع هؤلاء المخربين للمستشفيات لمجرد أن لهم قريب توفي أو عومل بإهمال...فيكون الرد مباشرة إحراق المستشفي أو تخريب مرافقها... الحكومة مسئولة عن نظافة الشوارع لكنها ليست قادرة ولا يمكن أن تقدر حتي مستقبلا أن تلاحق هؤلاء البشر الذين اعتادوا أن يلقوا مخلفاتهم وقاذوراتهم في قارعة الطريق, ومنهم قائدي وراكبي سيارات فارهة تفتح زجاجها بكل ثقة واقتدار لتلقي ببواقي الأكل وأكياس المخلفات في الطريق, غير عابئين بغيرهم ولا مدركين أنهم مصدر قذارة وإساءة للطريق الذي يسيرون فيه.. وأن ما يقومون به لا يمت للنظافة أو الحضارة أو الديانة أو حتي الإنسانية بأي صلة... فالحيوان فقط هو الذي ربما, وأقول ربما, لا يميز بين المكان الذي يضع فيه طعامه والذي يخرج فيه مخلفاته.. الحكومة مسئولة عن تحسين الاقتصاد وزيادة فرص العمل..لكنها غير قادرة, ولا يمكن لها أن تقدر, علي أن تجبر الشباب علي العمل الجاد, والتوجه بحماس نحو رفع قدراتهم من خلال التدريب والتثقيف وجدية النهج والسلوك, بدلا من التسكع في المقاهي, وقضاء الوقت في تكدير حياة الأسرة والشارع.. والفراغ آفة البطالة لفئة الشباب... يقتل صاحبه وبنكد علي مجتمعه الصغير والكبير, إن لم يتم ملؤه بالمفيد, لأن زبانية الشيطان ستملأ هذا الفراغ بكل قبيح وقميء.... الحكومة مسئولة عن تخطيط الشوارع للسير فيها, لكنها غير قادرة علي ضبط كم التجاوزات الواضح لقائدي السيارات من كافة النحل, والعلاج ليس فقط بتشديد يد القانون..بل أهم العلاجات هو تغيير القناعات لدي الناس... الحكومة مسئولة عن وضع خطط النهضة الشاملة, ولكنها لا تقدر أن تستنهض عزائم القطاعات المتنوعة من المجتمع إن لم يكن هناك نوايا طيبة لدينا كمواطنين لتغيير وقاعنا.. والكفل عن الغلو في كل شيئ... لقد عدت حديثا من رحلة عمل للرباط, للمرة الرابعة ربما, وكل مرة أعود محملا بالتقدير للمغاربة, علي كياسة ألسنتهم, وانضباط سلوكهم, ونظافة شوارعهم, ووداعة سجيتهم, وحبهم لنا في مصر, كما أعود أيضا مثقلا بالهموم علي أحوالنا الصعبة في العديد من صور حياتنا اليومية, والسبب ليس فقط غيبة الحكم الرشيد لسنوات عجاف طوال..لكن السبب الأهم هو فقدان بوصلة المواطنة الحقة, وغيبة الاعتدال لدي الإنسان المصري, وسقوطنا في فخ الغلو... علي الحكومة أن تجتهد في الإصلاح بكافة صوره, وأولها السياسي, قدرما يتسني لها.... وعلي المصريين أن يفيقوا من ثباتهم..فليس بالحكومات وحدها ترتقي الشعوب....