أكثر ما يمكن أن يصيب أي أمة هو أن تتراخي حتى تضربها الفتنة من داخلها. ومدخلات الفتنة في المجتمع لا حدود لها.وخاصة في مجتمع كالمجتمع المصري، وكثير من هذه المدخلات متداخل ومتشابه أيضا مع نظائرها في المجتمع العربي عامة.ليس فقط لأن المجتمع المصري قد تكالبت عليه الخطوب سنوات وسنوات.ولكن وقبل ذلك، لأن من هذه الخطوب ما يجعل الاختراق بالفتن أمرا أيسر وأكثر قدرة على الانتشار. دونما أية صعوبات أمام من يريد بهذا الوطن شرا. والفتن كثيرة الألوان والأشكال، ولكنها جميعا تلتقي في كونها تنال من البنية النفسية والمعنوية في المجتمع بشكل تدريجي متنام، وانتشارى، وربما بالعدوى أيضا، في غيبة الرشد العام، ووهن التعليم والثقافة، وفي ظل إرتماء المجتمع في أحضان الأزمات، واحدة تلو أخرى. وعادة ما تبدأ الفتن بخبر مفبرك أو معلومة مضللة أو تصرف خبيث، له صدى في مسألة لها قدرها من الحساسية بالمجتمع. ولو لم تعالج من ذوي الشأن في منشئها، لانتشرت وبسرعة، حتى يستحيل السيطرة عليها. وأشهر أنواع الفتن التي عرفناها في مصرنا وحتى في عالمنا العربي هي الفتن المرتبطة بالعقيدة. وهي بالمناسبة أشد أنواع الفتن فتكا بالبشر والحجر. لأنها تعزف الحان الوقيعة على أوتار الحماسة والحمية الدينية لدينا. ونحن كمجتمع شرقي، تسبق العاطفة العقل في شئوننا العامة، وسرعان ما تتحول المشكلة البسيطة إلى بركان هائل ينذر بالوقيعة الكاملة بين طائفة وأخرى، أو بين معتنقي ديانة وأخرى، وتقوم الحروب وتنشأ النزاعات. ثم لا تقوم للمجتمع قائمة لعقود وعقود. ولعل الاستعمار، باعتباره ظاهرة حديثة نسبيا في تاريخنا ليس البعيد، قد برع في استعمال أداة الفتنة لتحقيق مآربه، في إضعاف روح المقاومة الوطنية، وإلهاء المستعمرات بمشاكل تافهة، احترف المستعمرون توظيفها، وتفخيمها والنفخ فيها، حتى تبتلع الجموع الطعم.فتتأجج الفتن، وينغمس المجتمع في الوهن والشقاق.والاستعمار الإنجليزي، بمبدئه الشهير فرق تسد، قد سار على ذلك النهج. واستحضر حادثة دنشواي الشهيرة، حيث أصر اللورد كرومر على أن يعين بطرس باشا غالي رئيسا للمحكمة، وأعقب تنفيذ الحكم بالإعدام على العديد من الأبطال المصريين أن قامت العديد من الصحف المصرية، مثل اللواء وغيرها، بشن هجوم مرير، ليس فقط على بطرس باشا غالي، ولكن على الأقباط المصريين كلهم.وكانت فتنة. سارعت النخب العاقلة من المصريين بوأدها. وعاد النسيج المصري رائقا شفافا بلا أدران بعد هذه الفتنة العابرة. وحينها أدرك الاستعمار ألا سبيل إلى تفريق المصريين على أساس عقائدي. وأستحضر أبياتا رائعة لأمير الشعراء وفارس الشعر العربي الرصين الأبرز أحمد باشا شوقي، الذي نسج قصيدة بارعة كعادته، صاغ فيها التحام النسيج المصري برقة شعره وجمال بنيان أبياته، في قصيدة بعنوان قبرَ الوزيرِ، تحيَّة ً وسَلاما يقول في بعض أبياتها: أَعَهِدْتَنَا والقِبْطَ إلاَّ أُمّة للأَرض واحدة تَروم مَراما؟ نعلي تعاليمَ المسيحِ لأجلهم ويوقِّرون لأجلينا الإسلاما الدِّينُ للدَّيّانِ جلَّ جلالُه لو شاءَ ربُّكَ وَحَّدَ الأَقواما واليوم. ونحن في مصرنا الغالية. نصارع الأزمات ونعيد بناء وطننا الأغر. في حاجة ماسة إلى تلك الروح الواحدة، التي ميزت النسيج المصري في تاريخه.نحتاج وبشدة ألا نسمح للفرقة أن تضرب بنياننا المجتمعي بكل طوائفه، دونما نظر إلى دين أو توجه سياسي أو عرق أو لون.فكل هذه العناصر لم تفلح تاريخيا في التفريق بيننا كمصريين. وعار علينا أن نسمح لها اليوم أن تكون مدخل الأعداء إلى اغتيال أحلامنا في مستقبل آمن ومزدهر. يجب أن نبني بلادنا على أسس من الوطنية الخالصة، الممزوجة بالعقيدة الرائقة. وعمادها التسامح واحترام الآخر. وعندها لن نبني مصر فقط. بل سنجعلها عالية القدر وزاهرة العمارة.عمارة البشر والحجر في آن واحد.