ودوما يحاول أعداء الوطن أن يطرقوا كل باب لتمزيقه, دوما أيضا يحاول الأبناء المخصلون لهذا الوطن أن يطرقوا كل الأبواب للدفاع عن الوحدة الوطنية, بأمل حمايتها من محاولات تمزيقها. وكان الشعر سلاحا ماضيا في كلا الحالين, لكن مشاعر الوحدة الوطنية تغلبت وتفجرت شعرا شجاعا يدرك أن الدفاع عن الوحدة الوطنية ليس مجرد دفاع عن حقوق الأقباط, وإنما هو دفاع عن مصر وعن تاريخها وحاضرها ومستقبلها, فالتمييز إن بدأ بسبب من الدين سيكون سهلا عليه أن يمتد ليفرق بين المصريين علي أساس الجنس( رجل أو امرأة) أو علي أساس الوضع الاجتماعي( غني أو فقير) أو علي أساس الموقف السياسي( معارض أو مؤيد), ذلك أن مبدأ التمييز مع المختلف عنا ينتقل بالعدوي مثل فيروس سريع الانتشار. ولأن الشعر هو واحد من أهم أدوات التعبير فقد كان اللجوء إليه حتميا في معركة شديدة الأهمية شديدة الحساسية بالنسبة لمصر. وفي كثير من الأحيان كان رجعيون يسيئون إلي الفهم الصحيح للدين بهجوم منكر علي الإخوة في الوطن وفي الوطنية, فيرد عليهم حافظ إبراهيم عنيفا: كم عالم مد العلوم حبائلا لوقيعة وقطيعة وفراق وفقيه قوم ظل يرصد فقهه لمكيدة أو مستحل طلاق يمشي وقد نصبت عليه عمامة كالبرج, لكن فوق تل نفاق وقد رأينا في مقال سابق كيف أن البعض ساق شعرا مؤذيا يعتبر أن قتل الورداني لبطرس باشا غالي(1910) إنما كان لأنه نصراني, وكيف رد عليهم أحمد شوقي شعرا, فدعونا نكمل بعضا من أبيات هذه القصيدة الرائعة: ألم تك مصر مهدنا ثم لحدنا ويينهما كانت لكل مغانيا ألم نك من قبل المسيح ابن مريم وموسي وطه نعبد النيل جاريا ولم يكتف شوقي بهذه القصيدة, بل وقف في حشد أمام قبر بطرس غالي قائلا: أعهدتنا والقبط إلا أمة للحق واحدة تروم مراما نعلي تعاليم المسيح لأجلهم ويوقرون لأجلنا الإسلاما الدين للديان جل جلاله لو شاء ربك وحد الأقواما وفي شعر العامية نجد زهورا بلا حصر تمتلئ بها حديقة الدفاع عن الوحدة الوطنية. وفي إحدي مسرحيات نجيب الريحاني يرتل المنشدون أبياتا لبديع خيري لحنها سيد درويش تقول: إن كنت صحيح بدك تخدم مصر أم الدنيا وتتقدم لا تقول نصراني ولا مسلم ولا يهودي يا شيخ اتعلم أما آخر قصيدة كتبها سيد درويش ولحنها ثم رددها المصريون في استقبال سعد العائد من المنفي. وكان المستقبلون لسعد ينشدونها دون أن يصل إليهم خبر وفاة درويش فتقول: مصرنا وطنا, سعدنا أملنا كلنا جميعا للوطن ضحية أجمعت قلوبنا, هلالنا وصليبنا أن تعيش مصر عيشة هنية ولقد ظل الشعر دوما هكذا. ولعل الشعراء المحدثين قد استمدوا ذخيرتهم من محيي الدين بن عربي عندما قال: لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إذا لم يكن ديني إلي دينه داني وقد صار قلبي قابلا كل صورة فمرعي لغزلان ودير لرهبان أم لعلهم أمسكوا بالوجد الصوفي الذي يتألق بالتوحد بين عنصرين متحابين مندمجين معا, كل منهما يعتبر أنه الآخر كتب عنهما الحلاج: أنا من أهوي ومن أهوي أنا نحن روحان حللنا بدنا فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا وقد عودنا الشعر الصوفي أن يفهم علي أكثر من عمق فلسفي, لكن العمق هنا يأتي في التوحد مع الآخر والإيمان بأنه جزء منه متحد معه دونما قدرة علي فصلهما أو التمييز بينهما. والأزهار في حدائق الشعر القديم والحديث والمعاصر.. بلا حصر. وليس أمامنا إلا أن نعمق إيماننا نحن بعمق وحدتنا الوطنية وباعتباره الركن الأساسي للمستقبل المصري, فهذا شرط أساسي لغرس الأمل المصري في مستقبل أفضل.