بحلول أوائل الثمانينيات سيطر الإسلاميون علي اتحادات طلاب الكليات الكبري وأندية اعضاء هيئة التدريس بها, محققين هزيمة لكل من اليساريين والموالين للحكومة علي حد سواء ومن أجل زيادة نشاط الحركة الإسلامية في الحياة السياسية قررت قيادات الإخوان المسلمين في اواسط الثمانينيات أن يقوموا بحملات انتخابية في أبرز النقابات في مصر ليكسبوا التأييد الذي زرعوه في نفوس طلبة الجامعات, ففي عام1984 دخل التيار الإسلامي الموالي للإخوان المسلمين انتخابات نقابة الأطباء كجبهة منظمة لأول مرة وفي خلال خمس سنوات تمكن التيار الإسلامي او الصوت الإسلامي كما هو معروف في بعض النقابات, من تحقيق انتصارات انتخابية متوالية وفرض سيطرته علي المجالس التنفيذية في نقابات الأطباء والمهندسين والصيادلة مع تحقيق وجود قوي في غيرها من النقابات. ونتوقف هنا امام تفسير روجت له جماعة الإخوان, وبعض الدوائر الإعلامية والسياسية المتفقة مع الجماعة في الرؤي والتوجهات ينطلق من ان انتصار وأحيانا اكتساح الإخوان لانتخابات النقابات المهنية خير دليل علي أن الخيار الإسلامي السياسي خيار مجتمعي تساندة اغلبية الشعب.. وهذا التفسير قد يبدو لأول وهلة صحيحا.. لكن تفحص هذه الانتخابات وعدد المشاركين فيها يعطي دلالات تخالف هذا التفسير. الأقلية المنظمة قد نتصور أن غالبية الأعضاء يؤيدون الحركة الإسلامية, ولكن هذه ليست الحقيقة بالضرورة, فليس من السهل معرفة اتجاهات المهنيين الفكرية من نتائج الانتخابات لسبب بسيط وهو أن غالبية الاعضاء لا يدلون بأصواتهم, فعلي سبيل المثال عند انتصار التيار الإسلامي في نقابة المحامين عام1992 لم يشارك في الانتخابات سوي10% فقط من الأعضاء البالغ عددهم140000 ولم يكن هناك سوي44000 عضو أو ما يعادل أقل من ثلث الاعضاء قد سددوا اشتراكاتهم السنوية ولهم الحق في التصويت, ومن بين هؤلاء لم يشارك في الانتخابات سوي14000 اي مايعادل أقل من ثلث الذين لهم حق التصويت, وتختلف معدلات المشاركة في الانتخابات النقابية من مهنة إلي أخري فهي تتراوح بين30% من اجمالي الأعضاء( مايعادل65% ممن لهم حق التصويت) في نقابة الأطباء في آخر انتخابات عقدت بها, وتصل إلي5% من إجمالي الأعضاء في نقابة التجاريين, وإذا كانت نتائج الانتخابات النقابية لها أي معني, فإنها تعني الشعور العام بالعزلة والانسلاخ واللامبالاة أكثر من التمسك بفكر سياسي او قضية سياسية معينة, وأفضل تصور للتيار الإسلامي هو انه اختيار أغلبية الأقلية للمهنيين الذين يدلون بأصواتهم في انتخابات النقابات. وتتساءل اماني قنديل: ماذا يميز أقلية المهنيين الذين يصوتون؟ وما الذي جعل غالبيتهم يصوتون لصالح التيار الإسلامي؟ والإجابة عن هذين السؤالين, تبدأ منذ التغييرات المهمة التي طرأت علي هيكل اعضاء النقابات في العقد الذي يسبق دخول الإسلاميين في معترك الحركة النقابية,( عبدالرحيم علي: الإخوان المسلمون, أزمة تيار التجديد, مرجع سابق, ص786). التيارالإسلامي في انتخابات النقابات المهنية دخل التيار الإسلامي في انتخابات النقابات المهنية لأول مرة عام1984 عندما قيد قائمة من المرشحين لمقاعد المجلس التنفيذي لنقابة الأطباء, وفي عام1985 دخل التيار الإسلامي تحت لافتة الصوت الإسلامي في انتخابات نقابة المهندسين, ثم استمر في الترشيح إلي انتخابات نقابات أطباء الأسنان والعلميين والزراعيين والصيادلة وكذلك في انتخابات الصحفيين والتجاريين والمحامين. وقد أدت المكاسب الأولية للتيار الإسلامي إلي تكوين جبهات سياسية مضادة تضم المرشحين العلمانيين واليساريين والليبراليين وفي بعض الحالات انضم اليهم مرشحو الحكومة, وفي نفس الوقت كانت هناك قوائم انتخابية تقليدية قائمة علي قطاع او مكان العمل( مثل قائمة مهندسي الجيش في نقابة المهندسين او قائمة قصر العيني في نقابة الأطباء) ويرأس هذه القوائم وزير ذو نفوذ او مرشح حكومي, وكانت تعتبر من العوامل المؤثرة علي انتخابات النقابات آنذاك وكذلك الأمر بالنسبة للمرشحين المستقلين. وعند رصد البيانات الانتخابية التي تشير إلي نجاح التيار الإسلامي في كثير من نقابات مصر المهنية منذ أواسط الثمانينيات علينا ان نقدم تحذيرا واضحا. فالكثير من الدراسات الحالية تستمد معلومات عن نتائج الانتخابات من التقارير الصحافية لكنها في أغلب الأحيان تتضارب, فتغطية الانتخابات في النقابات خاصة عندما تسجل تفوقا كبيرا للمعارضة تعتبر ضعيفة جدا في الصحافة الحكومية لذا يضطر المرء ان يعتمد فقط علي صحافة المعارضة التي قد تتأثر بموافقها السياسية. والنقابات نفسها أفضل مصدر للمعلومات, إلا ان موظفيها عادة ما يكونون غير راغبين او غير قادرين علي تقديم معلومات دقيقة عن نتائج الانتخابات خلال فترة معينة من الزمن وفوق هذا فان سجلاتهم تورد المرشحين الناجحين بأسمائهم فقط ولا توضح انتماءاتهم. ومما يزيد من صعوبة تفسير نتائج انتخابات النقابات ان الانتماء السياسي للمرشح لا يكون واضحا, فالمرشحون الإسلاميون قد يدخلون كمستقلين والقوائم قد تضم يساريين او اصحاب التيار الإسلامي مع مرشحي الحكومة دون أن يصل للجمهور اي إعلان عن هذا التحالف, وكما أوضح المهندس أبوالعلا ماضي( في محضر نقاش أجريناه معه) فإنه في حالة المعرفة بانتماء مرشح للمعارضة, فإن هذا يعرضه للمشاكل ويؤثر علي حياته العملية,لذا نجد أن انتماءات المرشحين السياسية لا تكون معروفة, مثلما يحدث في انتخابات مجلس الشعب, ولهذا فمن المهم التعامل مع دلالة نتائج هذه الانتخابات بدرجة عالية من الحذر وعدم الانزلاق للتعميم( محضر نقاش سابق مع أبوالعلا ماضي) وتوضح ويكهام أن المعلومات المتوافرة حول الانتخابات توضح تماما صعود نجم التيار الإسلامي في بعض النقابات. فقد دخل التيار الإسلامي انتخابات الأطباء لأول مرة ككتلة منظمة في عام1984, ولكن طبقا لقول عبد المنعم أبو الفتوح الأمين العام لاتحاد الأطباء العرب, وأحد رموز التيار الإسلامي ( في محضر النقاش السابق الإشارة اليه) فإن الانتخابات كانت تضم مرشحين من المتعاطفين مع المبادئ الإسلامية منذ فترة طويلة, وأن أفكار الإخوان المسلمين كان لها أتباع كثيرون بين الأطباء. إلا أن مايميز انتخابات1984 هو أنه لأول مرة تم تكوين قوائم علي أساس فكري وليس علي أساس مكان العمل أو خطوط قطاعية( أبو العلا ماضي المرجع السابق). وفي انتخابات1984 فاز التيار الإسلامي بسبعة من مقاعد المجلس التنفيذي لنقابة الأطباء البالغ عددها25 مقعدا, وبحلول عام1990 فاز بجميع المقاعد. وفي عام1986 فاز التيار الإسلامي بستة آلاف من إجمالي الأصوات البالغة11800 وفاز أيضا ب12000 صوت من19000 في عام1988. أما في سنة1990 فقد زاد عدد الناخبين حتي وصل إلي21500 حصل التيار الإسلامي من بينها علي15000 وكما قلنا من قبل تختلف تقديرات أعداد الأعضاء العاملين في النقابات, ولكن إذا تقبلنا الافتراض الشائع بأن حوالي45000 كان لهم الحق في التصويت عام1988 يبدو أن معدل الإدلاء بالأصوات ارتفع من حوالي7% في1980 إلي أكثر من35% في1988, وطبقا لما جاء في مجلة الأهرام الاقتصادي وصل معدل التصويت إلي45% في1990. وكما لاحظت د.أماني قنديل فإن عدد الأطباء المسجلين قد تضاعف في1980 من40000 إلي88000 بينما ازداد عدد الناخبين ست مرات من3000 في1970 إلي19000 في1980. وباختصار فإن التيار الإسلامي نجح في السيطرة علي المجلس التنفيذي لنقابة الأطباء بفوزه في أربع انتخابات متتالية وبنسب متزايدة. فبينما لم يستطع الفوز إلا ب50% فقط من الأصوات في1986, ارتفع نصيب التيار الإسلامي إلي63% في1988 ووصل إلي70% في1990. وهذه النتائج لافتة للنظر نظرا لشدة المنافسة بين ثلاث جبهات انتخابية وهي القائمة الإسلامية والقائمة اليسارية الليبرالية وقائمة الحكومة التي تشرف عليها وزارة الصحة بنفسها, هذا إلي جانب أن ثلث أعضاء النقابة من الأقباط. إن وجود جبهات متعددة منظمة متنافسة قد يساعد علي تفسير سبب تمتع نقابة الأطباء بأكبر نسبة حضور للانتخابات بين جميع النقابات. ومع ارتفاع نسبة الاشتراك في الانتخابات, فإن التيار الإسلامي قد حظي بنصيب الأسد في الأصوات الجديدة, مما يدل علي أنه استطاع اجتذاب تأييد الخريجين الجدد الذين التحقوا بالنقابات في الثمانينيات, وقد أيد هذا الرأي كل المرشحين والمراقبين علي الساحة السياسية ككل. وعلي صعيد آخر حقق التيار الإسلامي أو الصوت الإسلامي نصرا متزايدا في نقابة المهندسين التي تعتبر من حيث الحجم أكبر من نقابة الأطباء بمقدار الضعف, وهي مقسمة إلي سبع شعب, وكانت انتخاباتها تتميز بالمنافسة بين عدة فئات أو مصالح يتم تنظيمها تبعا للقطاعات أو المهن. وقل دخول التيار الإسلامي في نقابة المهندسين تنقلت السلطة فيها بين تحالفات تمثل تجمعات مثل مهندسي الري والمدنيين( خاصة في عهد عبد الناصر) ومهندسي شركة المقاولين العرب( الذين برزوا في فترة الانفتاح) ومهندسي الجيش( الذين ظلوا جبهة انتخابية قوية طوال الثمانينيات). ومن عام1979 حتي1991 كان عثمان أحمد عثمان رئيس مجلس إدارة المقاولين العرب ورجل الصناعة الأول في مصر, يستغل منصبه علي رأس النقابة ليحولها إلي إمبراطورية صناعية ومالية تمتلك أغلب الأسهم في ست عشرة مؤسسة صناعية وبنكية في مجال التأمين والإسكان والغذاء. وقد تكون الصلات الحميمة التي ربطت عثمان أحمد عثمان مع الإخوان المسلمين منذ عهد بعيد هي السبب في تفسير استعداده للسماح للتيار الإسلامي بدخول النقابة في عام1985. وتعرقل التعاون الضمني بين عثمان والتيار الإسلامي عندما حاصرت الضغوط عثمان وحلفاءه في المجلس وسط ادعاءات بالمخالفات المالية وإساءة استخدام أموال النقابة.وفي عام1990 كان التيار الإسلامي القوي قد نأي بنفسه عن عثمان, وفي الجمعية العمومية لشهر مارس قادوا المطالبة بتكوين لجنة تقصي الحقائق للتحقيق في الخسائر التي حققتها الشركات التي تمتلك النقابة فيها جزءا كبيرا. ومن الغريب أنه مع أن التيار الإسلامي قد ثبت أقدامه في النقابة بتأييد من عثمان إلا أنهم استفادوا تماما من كبوته بأن وضعوا أنفسهم بنظافة أيديهم إلي جانب المخالفات التي اقترنت بعهده وبمعني آخر فإن التيار الإسلامي مع موقفه الثابت ضد الحكومة نجده في واقع الأمر يتحالف مع جبهات حكومية عند توافر المصلحة في هذا ثم يتحدي هذه الجبهات عند تغير الظروف. (عبد الرحيم علي, مرجع سابق, ص88 89). وقد حقق التيار الإسلامي انتصارا متواضعا في انتخابات النقابة في1985, ولكن علي حد قول مهندس أبو العلا ماضي الأمين العام المساعد وأحد قادة التيار الإسلامي, فإن المعركة الحقيقية كانت في عام1987 عندما اتحدت الجبهات المختلفة في قائمة واحدة ضد التيار الإسلامي, ومع هذا فقد انتصر التيار الإسلامي, ويضيف المهندس أبو العلا قائلا: لقد كانوا أقوي منا من حيث التنظيم والتمويل, فلهم السلطة أن يأمروا المهندسين كي يذهبوا الي الانتخابات لكن الحال انقلب فلم يكونوا متأكدين أن هؤلاء الناس سيعطون أصواتهم للجانب الذي يريدونه ب54 مقعدا من61 مقعدا موضع التنافس. ووفقا لقول المهندس أبو العلا فإن عدد الناخبين ارتفع من2000 في1981 إلي18000 في1987 ثم انخفض الي14000 في1989 وارتفع ثانية إلي25000 في1991 وبالنظر إلي هذه التقديرات تبين ان خمس الناخبين هم الذين اشتركوا في انتخابات النقابة علي المستوي القومي في1991, كما أنه يلاحظ أن نسبة الاشتراك في الانتخابات ترتفع في الأقاليم عن المدن الكبري ففي القاهرة الكبري كان هناك45500 عضو عامل( حوالي60 70% من الأعضاء المسجلين وفقا لتقديراته) منهم6000 أدلوا بأصواتهم بنسبة13% فقط. وفي انتخابات1991 فاز التيار الإسلامي بجميع المقاعد في مجالس الشعب السبع( المدنية, والميكانيكية...الخ) بمعدلات تصل الي5 إلي1 لأقرب منافسيهم( عبد الرحيم علي المصدر السابق- ص88). وطبقا لمايقول المهندس أبو العلا ماضي فإن نسبة كبيرة من الناخبين كانوا من الشباب, وهم يحتاجون أكثر لخدمات النقابة ولمن يساعدهم في البحث عن عمل وسكن وتكوين مدخرات تكفي لتغطية مصروفات الزواج هذا الي جانب أنهم علي حد قوله في القاهرة الكبري في1989 نجد3000 منهم كانوا تحت35 سنة, ومن بينهم قام2800 بالتصويت لصالح التيار الإسلامي( أبو العلا ماضي محضر نقاش سابق. أسباب النجاح وتحصر ويكهام الأسباب التي أدت لنجاح تجربة الإخوان في النقابات المهنية في أربعة أسباب رئيسية هي: 1 التقارب الاجتماعي والثقافي بين الزعماء الإسلاميين والجماهير مع تعمدهم إقامة صلة وطيدة بينهم وبين الجماهير. 2 جهود التيار الإسلامي لتنمية نمط الخدمات الاجتماعية التي قدمها العهد الناصري عن طريق تقديم خدمات جديدة لأعضاء النقابات. 3 السياسات الإسلامية الجريئة لاجتذاب التأييد لتحقيق أكبر قدر ممكن من الانتصار السياسي. 4 مايتمتع به فكر التيار الإسلامي من قبول نظرا لتعمده إغفال تفاصيل البرامج الانتخابية مع التركيز علي الدعوة للعودة للأخلاق والمحاسبة للقائمين علي الحياة السياسية المصرية. (عبد الرحيم علي, مرجع سابق ص90) ونواصل [email protected]