الحرس الجامعي.. ومنع السياسة في الجامعات! قال د. هاني هلال وزير التعليم العالي خلال تعقيبه علي الحكم القضائي بإلغاء وجود الحرس الجامعي داخل الجامعات المصرية وعزم الحكومة علي تنفيذ الحكم خلال شهر من وصوله إليها، أنه «لن يسمح بممارسة النشاط السياسي داخل الجامعات.. فالحرم الجامعي لن يصبح ساحة منافسة للجماعات السياسية، فالجامعة ليست مكانا للصراعات السياسية». وقد يبدو الربط بين «الحرس الجامعي» وممارسة العمل السياسي في تصريح الوزير باعثا لتعجب البعض، ولكن هذا التعجب سرعان ما يزول إذا تذكرنا أن الحرس الجامعي كان ومايزال من أبرز مهامه منع العمل السياسي في الجامعات وملاحقة النشاط السياسي للطلاب وللأساتذة. في الفترة السابقة للثورة كان النشاط والعمل السياسي في الجامعات في قمته، ومارس الطلاب والأساتذة المنتمون للأحزاب والحركات السياسية دورهم السياسي والوطني بحرية داخل الجامعات، وكانت هناك مساجلات ومجادلات وتحركات للوفديين والشيوعيين والإخوان المسلمين، ويسجل التاريخ دور الطلاب السياسي في «اللجنة الوطنية العليا للطلبة والعمال» عام 1946، وكان من أبرز قياداتها من الطلاب «دكتورة» لطيفة الزيات و«دكتور» محمود القاضي و«دكتور» فؤاد محيي الدين، واستمر هذا الدور بعد الثورة حتي منتصف الخمسينات، «فقد شهدت الفترة من 23 يوليو 1952 وحتي أزمة مارس 1954 أجواء انفتاح سياسي واسع يعد استكمالا بشكل أو آخر لمرحلة ما قبل يوليو 1952، واستمر نشاط التيارات السياسية بين الطلاب، وشاركت الحركة الطلابية بدور بارز في الحياة السياسية، ووقفت مع النقابات المهنية إلي جانب الديمقراطية خلال أزمة مارس 1954، ثم أخذ الوضع يتحول بسرعة في اتجاه فرض قيود صارمة علي العمل السياسي للطلاب، وبدا ذلك واضحا في اللوائح الخاصة بالاتحادات الطلابية التي صدرت خلال تلك الفترة وحتي عام 1967، والتي كانت سمتها الأساسية التضييق التام علي كل أشكال العمل الطلابي «مع جعل عمداء الكليات المعينين جزءا من كيان اتحادات الطلاب ومسيطرين علي قراراتها» وكذلك النص صراحة علي حظر العمل السياسي، فالمادة الخامسة من قرار رئيس الجمهورية رقم 1342 لسنة 1958 في شأن تنظيم اتحادات طلاب الجامعات نصت علي «يحظر علي الاتحادات الاشتغال بالمسائل الدينية والسياسية»! وعاد العمل السياسي للجامعة في منتصف الستينيات مع لائحة 1966، ولكنه كان عملا سياسيا موجها وخاضعا لنظام الحزب الواحد أي «الاتحاد الاشتراكي العربي» ومنظمة الشباب الاشتراكي، فقد نصت لائحة 66 علي التعاون المباشر بين اتحاد الطلاب ومنظمة الشباب، وتنفيذ السياسة العامة للتنظيم السياسي «دون وجود لجنة مخصصة للعمل السياسي ضمن لجان النشاط التابعة لاتحاد الطلبة»، وجاءت لائحة 1968 بتحول رئيسي داخل الجامعات بالنص علي وجود لجنة للعمل السياسي وإلغاء ريادة أعضاء هيئة التدريس لاتحادات الطلبة، وإنشاء «الاتحاد العام لطلاب مصر» للتواصل بين الطلاب في كل جامعات مصر «لمناقشة القضايا الطلابية والوطنية، والتنسيق بين الطلاب من أجل تكوين رأي عام طلابي تجاه كل ما يحدث.. والتأكيد علي بث قيم الوطنية وأفكار القومية العربية». كان وراء هذا التحول الإيجابي ردود أفعال المجتمع المصري لهزيمة يونيو 1967 والنقد الذي تعرض له نظام الحزب الواحد والتجربة الناصرية ككل وانتفاضة الجامعة بعد أحكام الطيران التي اعتبرها الطلاب مسئولا عن هزيمة 67 وحصل قادته علي أحكام مخففة، وتميزت لائحة 1968 بصدورها عن إرادة طلابية، فقد تم إقرارها من خلال المؤتمر العام للطلاب في سبتمبر 1968، ولكن سرعان ما تراجع النظام عن هذه الحرية النسبية للحركة السياسية والحركة الطلابية والتي انتزعتها التيارات الديمقراطية عقب هزيمة 1967 وسقوط الحلم الناصري، بتعديل لائحة 68 بإضافة بند عام 1969 ينص علي ريادة أعضاء هيئة التدريس علي كل لجنة من لجان النشاط في اتحادات الطلاب ورئاسة أحد الأساتذة لها، وتعيين رائد للاتحاد بكل كلية في الجامعة بقرار من عميد الكلية بعد موافقة وكيل وزارة التعليم العالي، وبالطبع كان القرار لا يصدر إلا بعد موافقة مباحث أمن الدولة علي أسماء المرشحين من أساتذة الكلية لتولي ريادة الاتحادات الطلابية. وفي السبعينات ومع بروز الاتجاه للتنظيم المستقل، والوهن والضعف وفقدان الثقة الذي أصاب التنظيم السياسي الواحد «الاتحاد الاشتراكي العربي»، واتجاه قوي وتيارات المجتمع للتعبير عن نفسها خارج مؤسسات الحكم ومنظماته السياسية، سواء اتخذ هذا التحرك شكل انفجارات جماهيرية، كما حدث في الانتفاضة الطلابية في يناير 1972 وتكوين «اللجنة الوطنية العليا لطلاب الجامعة» ومن أبرز قادتها أحمد عبدالله وأحمد بهاء الدين شعبان وزين العابدين فؤاد وسمير غطاس وسهام صبري، وظهور نادي الفكر الاشتراكي الذي ضم الطلاب الشيوعيين والماركسيين، ونادي الفكر الناصري، ومظاهرات وإضرابات الطبقة العاملة أعوام 1972 و1973 و1975، «واللجوء لإقامة تنظيمات سياسية سرية «الماركسية خاصة وأهمها في ذلك الوقت الحزب الشيوعي المصري وحزب العمال الشيوعي والحزب الشيوعي 8 يناير والتيار الثوري»، أو الدور الذي لعبته النقابات المهنية في التعبير السياسي في ظل غياب الأحزاب السياسية، كما حدث في نقابتي المحامين والصحفيين بصفة خاصة»، واضطرار الحكم في نهاية عام 1975 وبداية عام 1976 إلي طرح «قضية تعدد التنظيمات السياسية والأحزاب، ثم قيام المنابر داخل الاتحاد الاشتراكي في مارس 1976» وبدء التعددية الحزبية المقيدة.. في ظل هذه التطورات كلها ولدت لائحة 1976 الطلابية التي اعتبرت العمل السياسي أحد أشكال العمل الطلابي في الجامعات، واعتبرت التواصل مع المؤسسات السياسية خارج الجامعة أحد أهداف الاتحاد الطلابية فنصت في المادة السادسة علي «توثيق العلاقة بين الاتحادات الطلابية والتنظيم السياسي والمجالس والأجهزة التنفيذية»، وأكدت استمرار اتحاد طلاب الجمهورية، واستبعدت أي وجود لأعضاء هيئة التدريس في اتحادات الطلاب. ولكن الانتفاضة الشعبية في 18 و19 يناير 1977 ودور طلاب جامعات القاهرة وعين شمس والإسكندرية وأسيوط فيها، وصدور قانون الأحزاب (40 لسنة 1977) والذي جرّم وجود الأحزاب في الجامعات و«الأماكن الإنتاجية أو الخدمية أو التعليمية»، وقبل ذلك صدور القانون رقم 2 لسنة 1977 والذي عاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة علي الإضراب والتظاهر، واتجاه الحكم للتراجع عن الهامش الديمقراطي المحدود الذي انتزعه النضال الشعبي، وإعلان السادات الحرب علي الحركة الجماهيرية وقوله «أنا بقول، إضراب اعتصام تعطيل دراسة، عمل البلطجة التي تتم داخل حرم الجامعة.. ممنوع، استغلال المادة المتفجرة في الشباب اللي همه الطلبة.. لأ لأ، يجب ألا تكون في الجامعة مرة أخري أبدا، رسالة المعاهد التعليمية هي العلم، مفيش اجتماعات سياسية داخل الجامعة إطلاقا، اللي عايز يشتغل سياسة يروح يدور علي الحزب اللي هو عايزه بره».. كل ذلك أدي إلي صدور لائحة 1979 الطلابية التي أنهت الكثير من أشكال العمل الطلابي خاصة العمل السياسي، وأعادت سيطرة أعضاء هيئات التدريس علي الاتحادات الطلابية وأي أنشطة داخل الجامعات، ثم فرض هيمنة الأمن علي الجامعات وإعطاءه صلاحيات غير محدودة، بتعديل المادة 317 من اللائحة التنفيذية لقانون تنظيم الجامعات بالقرار الجمهوري رقم 278 لسنة 1984 الذي أصدره الرئيس حسني مبارك «وغير طبيعة التواجد الأمني في الجامعة من مجرد حماية منشآت الجامعة إلي حماية أمنها، مع عدم تحديد المقصود بأمنها» ليتحول الأمر عمليا لمفهوم بوليسي ضيق واعتبار أي نشاط غير ملتزم بالحكم القائم والحزب الوطني والإدارة إخلالا بالأمن. وفي ظل لائحة 89 والتي استمر العمل بها لمدة 28 عاما إلي أن صدرت لائحة 2007 والتي تعد استمرارا لها إن لم تكن أسوأ، غاب العمل السياسي عن الجامعات المصرية، وتخرجت أجيال عديدة غير مسيسة تفتقر إلي الوعي والانتماء ولا تشارك في أي عمل سياسي، وتبين في دراسة نوقشت في المؤتمر الثاني للشباب والأحزاب الذي نظمه المجلس القومي للشباب أن 8% فقط من شباب مصر يشاركون في العمل السياسي العام بما في ذلك النشاط الحزبي، بينما 92% منهم خارج المشاركة في الحياة السياسية «علما بأن 60% من سكان مصر من الشباب»، وتضيف الدراسة أن من يحوز بطاقة انتخاب بين الشباب لم يتجاوز 7.6%، كما أن 5.37% ممن يحملون بطاقات انتخاب لا يشاركون بالتصويت في الانتخابات، ولم يتجاوز نسبة من ينتمون إلي أحزاب سياسية من الشباب 5% من العينة مجال البحث، وينتمي ما يزيد علي 90% منهم إلي الحزب الحاكم، ولا يشارك 91% من طلاب الجامعات في الاتحادات الطلابية! ومن أهم النتائج التي ترتبت علي منع العمل السياسي في الجامعات ومنع الأحزاب السياسية المعترف بها قانونا من العمل داخل الجامعات، هو هيمنة التنظيمات غير القانونية علي الجامعات، بدءا بالجامعات الإسلامية التي سيطرت علي الحياة الجامعية منذ السبعينات ودعمتها أجهزة الأمن والسلطة السياسية للقضاء علي نفوذ اليسار والناصريين، ثم جماعة الإخوان المسلمين في الفترة الأخيرة. إن غياب السياسة ومنع العمل السياسي والحزبي في الجامعات هي سمة من سمات الأنظمة الاستبدادية غير الديمقراطية مثل الحكم القائم في مصر، ففي البلاد الديمقراطية يمارس الطلاب في الجامعات العمل السياسي والحزبي بحرية داخل أسوار الجامعة، لا فرق في ذلك بين جامعات فرنسا، وانجلترا أو الولاياتالمتحدة، وفي فرنسا تحديدا يوجد الشباب الشيوعي والشباب الاشتراكي والديجوليون داخل الجامعة بأسماء أحزابهم، يمارسون العمل السياسي والحزبي بحرية ووضوح - وهؤلاء - اليساريون بصفة خاصة - هم أصحاب انتفاضة الطلاب الشهيرة عام 1968 والتي غيرت الكثير في الحياة السياسية والحزبية في فرنسا وأوروبا عامة. ولكن هل يستطيع وزير غير سياسي، لم يمارس السياسة في حياته يوما واحدا، ورغم احتلاله لمنصب سياسي - فالوزارة منصب سياسي - أن يفهم أو يعرف أهمية وجود العمل السياسي والحزبي في الجامعات؟!.. لا أظن.