لم أكن في مقتبل العمر أتخيل أو أصدق, أن يوما سوف يأتي وأنا علي قيد الحياة أجد فيه نفسي مؤيدا للحزب الحاكم, متفقا معه, متحركا علي أرضيته, مرابطا في خندقه. العكس كان صحيحا, كنت أعتقد أن الله جلت قدرته قد خلقني لأكون معارضا جادا لا يعرف الهزل.دخلت الحياة العامة من باب المهنة, من باب الصحافة, وتصادف ذلك مع انطلاق صحيفة حزبية هي الوفد, عقب عودة الحزب في النصف الأول من الثمانينيات, فزادت وترسخت الاعتقادات القديمة... ثلاثون عاما من العمر, أنفقتها منذ جئت لطلب العلم في جامعة القاهرة, عرفت خلالها دهاليز وتفاصيل وخلفيات الحياة الحزبية, فلم أجد فيها معارضة جادة. قطار العمر يمضي, علي مشارف الخمسين, اكتمل المشيب, اكتهل العقل, ملامح المشهد السياسي تشير إلي حزب فيه مقومات الحزب, ومن حوله أحزاب تحت لافتات, واللافتات فوق رماد, والرماد تسكنه النار, ودخان يتصاعد من كل موقع أو عنوان أو مقر حزب, ينبئ بجولات وصولات لا تنقطع من الصراعات والانشقاقات... علي مدار سنوات العمل الصحفي, حضرت الكثير من مؤتمرات وأنشطة الحزب الوطني, وغدا في تمام العاشرة صباحا, أحضر مؤتمر الحزب مؤملا وداعيا أن أجد فيه ما يدعونا لشيء من الاطمئنان علي مستقبل الأجيال. تعلمت من مرارة التجارب أن أستمسك بالتريث والحذر, لم يعد ممكنا في هذه السن أن يجود المرء بالثقة يقدمها علي بياض, لم يعد للاندفاع مكان في العقل ولا في الروح ولا في الطاقة, ولم تعد تحتمله الأعصاب. في مقتبل العمر, كان القلب يسبق العقل, والخيال يتجاهل الواقع, والاندفاع يقودك خلف أحلام الشعراء, مثل صرخة أبي القاسم الشابي: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر.. ليس مفيدا أن نتساءل: ماذا يريد الشعب؟ السؤال هو: ماذا يستطيع الحزب؟