ما أكثر الدعاوى الباطلة التى أُلصقت بالإسلام، فمن قائل: إن الإسلام يحجر على العقل، وقائل: إن الإسلام يقيد حرية الإنسان وحرية الإبداع. إلى آخر هذه الأباطيل التى تكشَّفَ زيفها وحنقها على الإسلام أو جهل أصحابها بهذا الدين. وقبل أن نتحدث عن حرية الإبداع فى الإسلام، سنحاول تحديد المفهومين: الحرية، والإبداع. والحرية فى الإسلام تعنى: الانعتاق والتخلص من كل القيود، بما يتيح للإنسان فرصة الارتقاء وتحقيق الرسالة المنوطة به، رسالة تعمير الأرض لا بالنسل والزراعة والصناعة فحسب، بل أيضًا تعميرها بالمعانى العظيمة والأفكار المتطورة التى تضيف إلى الحياة البعد الإنسانى. إن أول ما يحرص عليه الإسلام هو تحرير الإنسان من كل عبودية أو خضوع لغير الله عز وجل حرية النزوع الفطرى فى الإنسان إلى السمو والرقى، بدءًا من حرية الاعتقاد وانتهاء بحرية الرأى والقول والفعل إن الخطوة الأولى نحو الحرية تبدأ من سقوط الأصنام. كل الأصنام التى تذل الإنسان أو يذل هو كرامته لها. أصنام الآلهة المزيفة، والأصنام البشرية بكل أشكالها من حكام وكهنة وسحرة ولصوص وأشقياء، والأصنام التى تسكن داخل النفس الإنسانية من الشهوات القاهرة والنزغات المهلكة. أسقط الإسلام كل هذه الأصنام منذ كانت دعوته صلى الله عليه وسلم إلى ترك عبادة الأصنام والاعتراف بوحدانية الله، وأنه لا إله إلا الله، وكانت آخر مرحلة من مراحل سقوط الآلهة المزيفة بِمِعْوَل الدين الحق عند دخول الرسول صلى الله عليه وسلم مكة، وتحطيمه الأصنام التى وضعوها حول الكعبة كرمز لسقوط كل ألوان العبودية المذلة، والدخول فى العبودية لله الحق. فكان فتح مكة فاتحة عصر جديد يحمل فكرًا جديدًا وقيمًا جديدة. وكان من بين أهم هذه القيم: الحرية. فماذا عن مفهوم الإبداع من المنظور الإسلامى؟ يقول الله سبحانه وتعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} المؤمنون - 115. إنما خلق الله الإنسان ليكون خليفة له فى الأرض: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ فِى الْأَرْضِ خَلِيفَةً} البقرة - 30، ثم أمد الله خليفته بإمكانات لم يؤتها أحدًا من خلقه: آتاه العلم: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} البقرة - 31. ثم أسجد له الملائكة رمزًا للتكريم والتشريف: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} البقرة - 34. ثم منَّ الله على الإنسان بنعم لا تحصى: العقل والإرادة والقدرة العضلية والمخيلة (المقدرة على الابتكار)، لأن الإنسان لن يكون مجرد كائن فى كون الله، بل كائن له طبيعة خاصة وقدرات خاصة تناسب رسالته وكرامته عند الله. جاء الإنسان ليضيف إلى الحياة بما أوتى من الإرادة الحرة والقدرات الخلاقة أبعادًا جديدة، أى ليبدع. والإبداع يتخذ مظاهر كثيرة: الإبداع الفكرى، الإبداع العلمى، الإبداع الفنى، أليس الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} الإسراء - 36. لا أحد يستطيع أن ينكر أن الإسلام قد أعطى الأمة العربية انطلاقات كبيرة، وأمدها بطاقات جبارة، فلأول مرة فى تاريخ العرب يكون لهم دولة واحدة ونظام سياسى واضح الملامح، هذه الدولة التى امتدت بالفتوحات الإسلامية لتصبح دولة مترامية الأطراف وحضارة متميزة عن كل ما سبقها ولحقها من حضارات، لقد أطلق الإسلام كل قوى الإبداع التى كانت معطلة أو مخبوءة تحت ستار من الخرافات والضلالات والجهل والتشرذم والبدائية، جاء الإسلام منهاجًا لحياة الإنسان الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والحضارية، فدبَّت الروح فى الملكات الإبداعية عند الناس، فانطلقوا فى فجاج الأرض وأسقطوا حضارتين: حضارة الفرس وحضارة الروم، ليحلوا محلها حضارة الإسلام العملاقة. انطلقوا يزرعون ويصنعون ويبدعون فى كل مجالات الإبداع: {قُلْ سِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} العنكبوت - 20. وللحديث بقية.