بين دفتى كتاب "وصف مصر" الذى أعدته الحملة الفرنسية جاء جزء عن المقاهى ذكر فيه أن مدينة القاهرة بها حوالى 1200 مقهى بخلاف مقاهى مصر القديمة و500 مقهى فى بولاق، والقهوة كانت موجودة من قبل ذلك بمئات السنين ولكن لم يطلق عليها اسم المقهى لأن القهوة نفسها لم تكن قد دخلت إلى مصر، وكانت هذه الأماكن معدة لتناول مشروبات الزنجبيل والحلبة والقرفة والكركديه ولم تكن أيضا "الشيشة" موجودة فى ذلك الوقت. والمقاهى زمان تختلف عما هى عليه حاليا، حيث إنها فى الماضى كانت تروى فيها قصص السير الشعبية والملاحم مثل قصص أبوزيد الهلالى والظاهر بيبرس والأميرة ذات الهمة، كما كانت ملتقى يوميا للناس حيث توجد الحكايات وتتم الاتفاقات وتعقد الصفقات، ويلتقط أصحاب المهن أنفاسهم وقت الغداء والراحة، واجتذبت المقاهى مشاهير الأدب والفن والسياسة على مر العصور وبخاصة مقاهى الأحياء العريقة، وكان من بين روادها جمال الدين الأفغانى ومحمد عبده، ونجيب محفوظ، وإحسان عبدالقدوس، ويوسف السباعي، يوسف إدريس، كما كان هناك مكان مخصص - بأحدها - للملك فاروق، وكذلك بعض رؤساء الدول عند زياراتهم لمصر مثل الرئيس الجزائرى الحالى عبدالعزيز بوتفليقة، والرئيس اليمنى السابق على عبدالله صالح. وكما كانت توجد مقاه لتجمعات الأدباء لعقد اللقاءات، والتباحث حول الشأن الأدبى كانت هناك اخرى لتجمعات الممثلين. ولأهل "الليل والموال والسيكا والبياتي" مقهاهم بشارع محمد على ويرجع تاريخه لقرن وربع القرن فقد كان مركزا للعاملين فى الفرق التى كان يطلق عليها "حسب الله" وهو أحد الموسيقيين لدى الخديوي إسماعيل وعندما خرج من الخدمة شكل أول فرقة للموسيقى تتقدم الجنازات وتحيى الأفراح، وهناك من تخصصت فى إذاعة أغنيات "الست" أم كلثوم لروادها على مدار ال24 ساعة، أيضا كان لكل أصحاب "كار" قهوة فى كل حى من أحياء تجمعاتهم، وكذلك لكل أبناء محافظة أو إقليم فنرى قهاوى "المنايفة"، و"السوهاجية" و"الصعايدة" و"أبناء النوبة". ومع مرور الوقت تغيرت ملامح المقاهى، واستدارت وجهتها، وتبدلت أهدافها، وباتت تلعب دورا خطيرا فى تدمير رجال الأمة وشبابها، بعد انتشارها السرطاني، فعلى يمينك مقهى، وعلى يسارك مقهى، وأمام المقهى مقهى، وبجوار المقهى مقهى، وبين المقهى والمقهى مقهى، ولم لا تتنافس وتنتشر وتتوغل وتزرع نفسها وسط التجمعات السكنية كنبت شيطانى ومكاسبها المادية مغرية للغاية، فراح يتفنن "القهوجية" فى تنويع الأنشطة وإطلاق المسميات واستغلال الأرصفة والمساحات الخضراء بنهر الطريق، وما بين "غرزه" فى حارة يتلاحق فيها شد الأنفاس فيخرج الدخان الأزرق، و"قهوة بلدى" ينتشر داخلها لعب القمار نهارا جهارا، و"كافيه خوجاتي" يقدم مع المشروبات "الألفرنكا" الممنوعات الحديثة على كل شكل ولون، مع الاتفاق مع بعض الشخصيات ممن لهم القدرة على الحشد وتجميع "الشلة" من حوله لتربيطات غير بريئة على أن تكون له معاملة خاصة عند الحساب مقابل أن يكون هذا المقهى هو قبلته الوحيدة. وفى زمن الانفلات توالدت هذه الكيانات السرطانية فى غيبة الأمن، وتكاثرت دون تراخيص تحت سمع وبصر الأحياء، وطبقا لأحدث الإحصاءات اقتربت فى عددها من المليون، استأثرت القاهرة الكبرى فقط بربع هذا الرقم، صخب وضجيج يتصل معه الليل بالنهار "واللى مش عاجبه يعزل"، وتحرشات بفتيات ونساء الحي، و"سنج ومطاوي" تفتح فى وجوه السكان، أو بين الرواد أنفسهم إذا تنافسوا على "مزة" جاءت بصحبة أحدهم أو الاختلاف على ثمن "شمة"!، أما أكبر المصائب فهو هذا العدد الرهيب من الشباب الذى اتخذ من "الكافيهات" مقرا دائما له، فلا شغله ولا مشغلة، يمد يده لوالده المغلوب على أمره كل صباح بلا حياء أو خجل، وينطلق إلى معسكره الدائم يأمر ويعزم و"يبعزق" فى فلوس أبيه، ويرجع إلى "اللوكاندة" أقصد المنزل وش الفجر دون اكتراث بعمل أو مستقبل، بحجة البطالة وعدم وجود وظائف. إن حل أزمة الشباب تكمن فى مواجهة "بلاوى القهاوى" وإغلاق غير المرخص منها، ومن حصل على ترخيص بليل ومن تجاوز حدود المرخص له، وقتها سوف يخلق الشاب الفرصة ليأكل من عمل يده، لا من مصروف أبيه.