راح يحدث نفسه وهو جالس داخل السيارة:كيف لرجل مثله لا يجد التقدير والترحيب لكتاباته.؟مفكر وأديب مثله, تجاوزت أعماله تسعين كتابا في شتي فروع المعرفة ولم تكرمه الدولة رغم ان أنصاف, وأرباع الأدباء, اخذوا اكثر مما يستحقون.. رجل مثله.. رفض الزواج.. تزوج الفكر والأدب.. لم لم يكرم..؟! لابد ان أعري كل الجهات الثقافية لتجاهلها راهب الفكر, من خلال حواري معه, سيكون افضل حوار صحفي بإذن الله و.. قطع عليه حديثه الصامت سائق العربة: ياللا يا أستاذ, وصلنا بلد( الجحش) نزل من العربة, نظر إلي الساعة, همس مبتسما: وصلت قبل الميعاد اللي حدده ليه بنصف ساعة؟! راح ينظر إلي الخضرة, والأشجار ثم قال: * بلد جميل, بس اسم علي غير مسمي. استوقف أحد المارة وسأله: * لو سمحت فين بيت الاستاذ محمد محمود الشهير براهب الفكر..؟ * اجابه الشاب في تعجب ** أنا ما عرفش حد بالاسم ده.. * هو حضرتك مش متعلم برضه..؟ * طبعا.. انا في كلية آداب ** يعني مافيش مرة صادفك الاسم ده في جريدة, او مجلة..؟ * يااستاذ.. أنا فاضي اقرأ المقرر.. عن إذنك راح يخطو, خطوات بطيئة في تعجب مما سمعه, توقف, اغلقت بوابة مزلقان السكة الحديد, التفت ناحية اليمين, فوجد عربة دايهاتسو تحمل فوقها نعشا النعش محاط بأربعة من الشباب يدخنون السجائر, ويضحكون بشدة, تعجب من هذا الموقف, ضرب كفا بآخر ثم قال: * حتي الموت لا يحترم..!! ** انفتح المزلقان, ظل يتلفت يمنة, ويسرة لعله يجد أحدا.. ظهر أمامه فجأة رجل يخرج من بيته, استوقفه بعد أن القي عليه السلام, راح يعيد السؤال مرة أخري.. وقف الرجل برهة. وظل( يهرش) بأصابعه اسفل ذقنه تارة, ويرفع طاقيته ويهرش في صلعته تارة أخري.. ثم قال. * أنا أعرف الست نجفة الرقاصة.. أو المعلم الجحش تاجر الخردة.. او الاسطي محمد الحلاق.. إنما مش تقولي مش عارف إيه وشهرته راهب فكري.. * طب لو سمحت ياحاج حضرتك قديم هنا في البلد..؟! صرخ الرجل في وجهه قائلا: ** قديم أبا عن جد, روح يافندي شوف أنت رايح فين.. وقف في حيرة من أمره.. هل يرجع..؟ أو يكمل البحث عنه..؟! بعد وقت قصير, قرر ان يواصل سيرته في البحث عن بيته بعد أن قال: * البلد صغيرة زي ما أنا شايف, وبيوتها معدودة. وأكيد حاوصل لبيته. ظل يطوف البلدة, يخرج من شارع ليدخل في آخر دون ان يجد احدا يسأله, توقف عندما رأي اطفالا يحملون بين أيديهم بعض المجلدات. ويتقاذفونها فيما بينهم في الشارع استوقف احدهم وسأله: * منين الكتب دي ياحبيبي؟! رد عليه الطفل وهو يضحك: هنا قدامك في آخر الشارع منها كتير.. أسرع الخطي, الكتب, المتساقطة من أيدي الأطفال كثيرة متناثرة في جانبي الشارع راح يتتبع آثارها حتي وصل إلي حشد غفير من أهالي البلدة قد تجمعوا امام احد البيوت, كتب كثيرة, كثيرة جدا, متناثرة امام عتبات البيت, وبعض الأطفال يرمون بعضهم بها والبعض الآخر من الرجال يقفون فوقها.. رماه أحد الأطفال دون قصد بكتاب, التقطه قبل أن يسقط علي الأرض قرأ عنوانه. (اغتراب) للمؤلف محمد محمود كاد يسقط علي الأرض من هول ما يراه.. استجمع قواه, وسأل أحد الواقفين بجواره: * بيت مين ده..؟! رد عليه الرجل دون ان يلتفت إليه: * بيت محمد محمود أخو المعلم( الجحش) صرخ في وجه الرجل.. * راهب الفكر.. رد عليه الرجل في تعجب من أمره: * راهب فكر, ولا راهب كفر, أنت عاوز إيه..؟! ** كان فيه ميعاد بيني وبينه.. فتح الرجل فاهه علي اتساعه, وراح يضحك بشدة, ونظر إليه غير مصدق ما يحدث, هدأت ضحكات الرجل ثم قال: * هو محمد محمود مش قابلك وأنت جاي.. ** لأ.. تقصد إيه؟! * يا استاذ محمد محمود تعيش إنت, والمعلم الجحش أجر أربعة رجالة وراحوا يدفنوه بره البلد..!! الكلمات كالرصاص, تراجع إلي الوراء يريد ان يستند علي شيء.. تذكر ذلك النعش الذي قابله عند مزلقان السكة الحديد.. سأله الرجل في تعجب من أمره: أنت تقرب له من بعيد..؟! ** لأ.. * ليك فلوس عنده..؟! ** لأ.. * أمال.. مالك زعلان عليه قوي كده ليه..؟! أخرج من جيبه ورقة الاسئلة, ثم سأل الرجل في حزن: ** لو سمحت فين إخوته..؟! * هناك أهمة.. التفت إلي مكان إشارته, وجد مجموعة من الرجال والنساء, والفرحة ترتسم علي وجوههم جميعا, واحد, من بينهم رمي مجموعة كبيرة من الكتب كانت فوق يديه وقال: * دي آخر شوية كتب موجودة جوه. رد عليه الآخر.. * ياللا نقسم رد ثالث: أنا حاخد التليفزيون وقالت المرأة: وأن التلاجة.. وقال ثالث: * وأنا البوتاجاز.. نظر إليهم, وإلي الكتب المتراصة امامه علي الأرض تدوسها الأقدام, ليسمع أنين الكلمات التي بين السطور, تبكي بشدة سحب قدميه بصعوبة بالغة, تاركا المكان, وبين يديه يحتضن كتاب( اغتراب). محمود أحمد علي الشرقية