عقب ثورة يناير 2011 مباشرة، قامت إثيوبيا سعيا وراء الاستفادة من الارتباك الداخلي في مصر بمضاعفة السعة التخزينية لسد " بوردر" أو الحدود الذي كانت أديس أبابا تسعي لإقامته في هذه المنطقة إلي خمسة أضعاف (74.5مليار م3) تحت مسمي سد النهضة. بعد أن مر المشروع بعدة مسميات " المشروع إكس" ثم "سد الألفية" ثم إستقر الأمر علي مسمي النهضة. وفي كل مرة كانت السعة التخزينية للسد ترتفع من 14 مليار متر مكعب إلي 54 مليارا، ثم إلي 63 مليارا، إلي أن استقر الأمر علي السعة الأخيرة (74 مليارا)، دون أن يكون هناك أي مبرر فني أو اقتصادي لهذه التوسعة الهائلة في حجم السد. وكان اللافت للانتباه أن الحكومة الإثيوبية بقيادة ملس زيناوي كانت تحيط هذا الأمر بتكتم شديد، إلي أن تم وضع حجر الأساس للسد في إبريل 2011، أي بعد ثورة يناير بشهرين إثنين فقط، وكان من الواضح ان هذا قد تم بقصد وبتخطيط واع، يهدف إلي السعي لاستغلال حالة الارتباك الداخلي وحالة السيولة السياسية التي كانت مصر تمر بها آنذاك، لكي تستطيع إثيوبيا تمرير هذا المشروع، لتحقيق أهداف سياسية وإستراتيجية بالأساس قبل أن تكون أهداف تنموية. والدليل علي ذلك يتضح في التكليف الذي كان قد أصدره رئيس الوزراء الأثيوبي الراحل زيناوي، لشركة ساليني الايطالية، بالأمر المباشر وبطريقة تسليم المفتاح، والذي كان يتلخص في سطر واحد فقط، هو أنشاء سد ضخم وعظيم " HUGE and GREAT DAM"، كما كان من اللافت للنظر أيضا أن حجر الأساس قد تم وضعه قبل أن تكتمل الدراسات الضرورية لمنشأة ضخمة بهذا الحجم، حيث أثبت تقرير اللجنة الثلاثية الدولية التي كانت أثيوبيا طرفا فيها ووقعت علي تقريرها النهائي الذي صدر في مايو 2013 أي بعد وضع حجر الأساس بعامين، أن الدراسات الخاصة بالسد غير مكتملة ولا يمكن الاعتداد بها، وخاصة الدراسات المتعلقة بالتأثيرات الناجمة عن السد علي الدولتين الواقعتين أسفل المجري وهما السودان ومصر، وان هناك دراسات أخري بالغة الأهمية، لا يمكن إنشاء مثل هذا السد بدونها وهي الدراسات الخاصة بالتأثيرات البيئية غير المتوافرة من الأصل. نخلص من ذلك إلي أن حكومة ملس زيناوي كانت تسعي بكل الطرق للدخول في سباق مع الزمن لانجاز السد، قبل أن تستعيد مصر نفسها وقدراتها، أو تسعي لمواجهة الأخطار والتداعيات المترتبة علي اكتمال هذا السد بمواصفاته الحالية وتحولها إلي أمر واقع. وفي سبيل ذلك اتبعت أثيوبيا سياسة طويلة الأمد تقوم علي الخداع والمناورة من أجل شراء الوقت، وتحويل السد إلي أمر واقع عبر أساليب عديدة، فاقت أي معلومات عن السد، ولم تقبل بتكوين اللجنة الثلاثية إلا علي سبيل المناورة، حيث اشترطت أن يتم النص في قرار تشكيل اللجنة علي أن السد تحت الإنشاء، وان تكون التوصيات غير ملزمة من الناحية القانونية، ثم ماطلت في بدء عمل اللجنة التي لم تتكون إلا في ابريل 2012، أي بعد وضع حجر الأساس بسنة كاملة، ثم تعمدت إطالة أمد عمل اللجنة التي لم تقدم تقريرها إلا في مايو 2013، بعد أن كان من المفترض أن تنهي عملها خلال ستة شهور. منذ ذلك الوقت والأزمة تدور في كيفية تطبيق توصيات هذه اللجنة الخاصة باستكمال الدراسات وقبل انعقاد الجولة الأخيرة بالخرطوم انعقدت ثلاث جولات للتفاوض، وقد باءت جميعها بالفشل، في الوقت الذي يجري فيه البناء في السد علي قدم وساق. الداخل الإثيوبى: ومن المعروف أن طبيعة تركيب الدولة الإثيوبية الحالية تعاني من احتقانات وتفاعلات صراعية ترتكز علي العرق والدين في دولة تزخر بتنوع هائل يحتوي علي أكثر من 83 قومية - أثنية. ورغم إعلان مبدأ الفيدرالية وعلمانية الدولة طبقا للدستور الحالي، فان هناك مثلثا يسيطر علي السلطة يتمثل في تحالف بين الديانة المسيحية واللغة الأمهرية والقومية المسيطرة في تحالف ثنائي بين الأمهرا والتجراي. وهذا المثلث الذي يعبر عن أقلية عددية يظل هو الحاكم والمسيطر علي باقي مكونات الطيف الإثيوبي، حيث ظلت المسيحية الأمهرية أو التجراوية في صراع دائم مع بقية المكونات العرقية الأخرى التي تمثل هوية أثنية ودينية مختلفة كالأغلبية الإسلامية للأرومو والعفر والصوماليين والهرريين وغيرهم. الأهداف السياسية: ولذا نجد أن سد النهضة يستخدم في هذا السياق كأداة أو آلية تعبوية لحشد الشعوب والاثنيات الإثيوبية خلف النظام القائم، عبر إيهام الإثيوبيين بان هذا السد سيكون بوابة أثيوبيا نحو التنمية والحداثة، عبر توليد الطاقة، رغم أن الداخل الإثيوبى لن يستخدم إلا ثلث الطاقة المنتجة من سد النهضة أو أقل، والباقي سيتم تصديره إلي الخارج بسعر التكلفة، الأمر الذي لا يتناسب مع التكلفة الاقتصادية الباهظة، ولا مع الحملة المسعورة التي يتم ترويجها في الداخل عبر جمع تبرعات إجبارية للسد وجعله جزءا من الحديث اليومي للشعوب الأثيوبية. والمسألة الأكثر أهمية في هذا السياق أن أثيوبيا لا تعترف حتي الآن بالقواعد الدولية من عدم إلحاق الضرر أو الإخطار المسبق، ولا تعترف بالاتفاقيات السابقة أو الحق التاريخي، ولا توجد اتفاقيات حول كيفية التصرف في المياه المحتجزة خلف سد النهضة أو السدود الثلاثة الأخري المقررة علي نفس النهر. وذلك في الوقت الذي تزعم فيه إثيوبيا أن المياه ملك خاص لها، الأمر الذي يعني أن إثيوبيا تسعي لان تكون الطرف المتحكم في المياه بشكل منفرد، من أجل هدف آخر، يتم إخفاؤه الآن عمدا، وان كان قد جرت الإشارة إليه في سياقات أخري، وهو الهدف المتمثل في بيع المياه ونقلها أيضا خارج الحوض. الأهداف الإستراتيجية: غني عن القول أن فكرة بيع المياه قد ظهرت في عقد التسعينيات من القرن الماضي، ومضمونها الرئيسي يقول بأن علي الدول المتشاركة في حوض نهر واحد إن تقوم باقتسام الحصص، وعلي الدولة التي تحصل علي أكثر مما هو مقرر لها، أن تدفع ثمن هذه الزيادة، وهذا الثمن يقدر بأدني سعر للبدائل المتاحة (في حالة مصر البديل المتاح هو تحليه مياه البحر وتكلفة المتر المكعب الواحد تبلغ حوالي دولار أمريكى). ومن الواضح آن هذه الفكرة هي الهدف النهائي الذي تصبو إليه اتفاقية عنتيبي بنصوصها الحالية، حيث تم رفض الإشارة إلي الحقوق التاريخية تحقيقا لهذا الغرض. وإذا مددنا حبل التفكير إلي آخره، فان إقرار حصص مائية لدول لا تحتاج إلي هذه المياه، يعني تلقائيا أن هذه المياه سوف تباع، ومن الواضح أن السدود الأثيوبية ليست سوي الآلية التنفيذية لهذه الفكرة أو المبدأ الجديد المراد تطبيقه، حيث أن أثيوبيا هي الطرف المعني كما أنها الطرف الرئيسي الذي وقف خلف تغذية الخلافات ثم التوقيع المنفرد علي اتفاقية عنتيبي. وإذا أخذنا في الاعتبار أن البعض في دول المنابع يعتبرون أن حصة مصر ينبغي ألا تزيد عن 40 مليار متر مكعب، فعلينا أن نتخيل صورة الأوضاع والأعباء المستقبلية التي سيتم من خلالها السعي لابتزاز مصر عبر سلاح المياه، وربما أيضا إتباع سياسات الإملاء والإكراه التي مازالت من خصائص أسلحة الدمار الشامل دون غيرها. هذا الأمر سوف ينتج عنه بلا شك تحول جيوسياسي في الإقليم، حيث تتحول إثيوبيا إلي دولة كبري في القرن الإفريقي وحوض النيل، وسوف تكون هذه السدود إيذانا بتطبيق الهدف الخاص بان تكون إثيوبيا (مجمع البحار ومجمع الأنهار) بمعني الطرف المتحكم في الدول الواقعة علي مداخل البحر الأحمر من الناحية الجنوبية، وكذلك تلك الواقعة في منابع النيل، حيث تكون محاطة بدول او دويلات صغيرة تدور في الفلك الإثيوبى، الذي سوف يكون بدورة نقطة ارتكاز أساسية للسياسات الأمريكية تجاه المنطقة، والشريك الاستراتيجي الظاهر والخفي (في آن واحد) لإسرائيل. ومن ثم فانه يمكن القول إن الهدف الأساسي هو دفع مصر نحو دائرة مغلقة من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بما يقضي علي دورها ويخرجها من تفاعلات المنطقة وربما يؤدي بها إلي نتائج أكثر من ذلك. كما سينتج عنه للأسف استنزاف كل من مصر والسودان والدفع بهما إلي علاقة صراعية بدلا من العلاقة التعاونية المستهدفة حتي الآن، في حين يبقي الطرف الإثيوبى متفرجا وقابضا علي سياسات المياه فوق الهضبة. الموقف المصري: لا تقف مصر ضد أي مشروع تنموي في حوض النيل، بل تسعي إلي تقديم يد العون والمساعدة، شريطة إلا يحدث ذلك ضررا بمصر التي تعتمد علي 95% تقريبا من مواردها المائية علي نهر النيل، والتي دخلت بالفعل إلي حيز الفقر المائي، ولا تمتلك ترف تعريض حق شعبها في الحياة للخطر. وفيما يتعلق بأزمة سد النهضة، فقد مر الموقف المصري بثلاث مراحل أساسية، المرحلة الأولي كانت أثناء المرحلة الانتقالية الأولي التي كان يديرها المجلس العسكري الانتقالي، والتي كانت مصر مشغولة فيها بمحاولة بناء نظامها السياسي الجديد، والتي اتسمت بمجموعة هائلة من التفاعلات التي كانت تشغل مصر عن أي أمور أخري، وفي هذه المرحلة تم قبول تشكيل اللجنة الثلاثية، من أجل أن يكون لدي مصر المعلومات الأساسية عن السد، بالشكل الذي يتيح لها تقدير الموقف وحجم الأضرار وكيفية التعامل مع الأزمة، وفي المرحلة الثانية التي تولي فيها محمد مرسي، تعامل الإخوان مع أزمة السد بطريقة تتسم بالارتباك والتخبط، حيث بدأ عهد الأخوان بمحاولة التهوين الشديد من الأزمة ومن أضرار السد، وحين تم تحويل مجري النهر عقب زيارة مرسي لأديس أبابا مباشرة، في لفته حملت الاستخفاف الشديد به، استشعر الرأي العام المصري، ومعظم شرائح النخبة بتنوعاتها المختلفة، وجود خطر هائل يتهدد مصر، وان الإخوان بحكم تكوينهم الأيدلوجى لا يعطون هذا الأمر ما يستحقه من اهتمام، فانتشر القلق والتساؤل في مختلف أنحاء البلاد، إلي الدرجة التي استشعر معها نظام الإخوان أن هذا الأمر سيشكل ضغطا هائلا علي أوضاعهم السياسية، فانقلب محمد مرسي علي عقبيه، وعقد الاجتماع الفضائحي الذي تمت إذاعته علي الهواء مع بعض حلفائه وحوارييه، والذي حمل إساءات وتجاوزات بالغة تجاه القارة الإفريقية ككل، وأساء إلي مصر وتاريخها ومكانتها ودورها. ووظفته أثيوبيا بطبيعة الحال في خدمة مخططها الرامي إلي كسب الوقت، فقامت بترجمة هذا الاجتماع إلي أكثر من لغة ووزعته علي نطاق واسع، وزعمت أن هذا يعد دليلا علي وقوف مصر ضد تنمية إثيوبيا، وانه بمثابة تهديد بالعدوان، في مسعي واضح لحرف القضية عن مجراها الأساسى، الأمر الذي ترك آثاره السلبية علي فشل جولات التفاوض الثلاث السابقة في الخرطوم من نوفمبر 2013 إلي يناير 2014. أما المرحلة الثالثة فقد بدأت بعد انتخاب عبدالفتاح السيسي رئيسا لمصر بأغلبية كاسحة، فبدأ في وضع إستراتيجية جديدة، تسعي بالأساس إلي الحفاظ علي الإطار التعاوني والبحث عن الحلول الوسط، علي قاعدة لا ضرر ولا ضرار، وإن كان هذا المسعي المصري هو النهج المعتمد طوال الوقت، إلا أن السيسي قدمه بطريقة مختلفة وعملية وتتسم بسرعة الحركة والقدرة علي اتخاذ القرارات. وقد نتج عن ذلك التوصل إلي "إعلان مالابو" علي هامش القمة الإفريقية المنعقدة في غينيا الاستوائية في أواخر يونيو الماضي. إعلان مالابو: عقب لقاء مطول بين الرئيس المصري ورئيس الوزراء الإثيوبى ديسالين، صدر هذا الإعلان في هيئة بيان مشترك، ونص علي أن الطرفين قد قررا تشكيل لجنة عليا تحت إشرافهما المباشر لتناول كل جوانب العلاقات الثنائية والإقليمية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية. كما أكد الطرفان علي محورية نهر النيل كمورد أساسي لحياة الشعب المصري ووجوده وكذلك إدراكهما لاحتياجات الشعب الإثيوبى التنموية، وفيما يتعلق باستخداماتهما المائية فقد تم النص علي عدد من المبادئ: 1 - احترام مبادئ الحوار والتعاون كأساس لتحقيق المكاسب المشتركة وتجنب الإضرار ببعضهم البعض. 2 - أولوية إقامة مشروعات إقليمية لتنمية الموارد المالية لسد الطلب المتزايد علي المياه ومواجهة نقص المياه. 3 - إحترام مبادئ القانون الدولي. 4 - الإستئناف الفوري لعمل اللجنة الثلاثية حول سد النهضة بهدف تنفيذ توصيات لجنة الخبراء الدولية واحترام نتائج الدراسات المزمع إجراؤها خلال مختلف مراحل مشروع السد. 5 - تلتزم الحكومة الإثيوبية بتجنب أي ضرر محتمل من سد النهضة علي إستخدامات مصر من المياه. 6 - تلتزم الحكومة المصرية بالحوار البناء مع إثيوبيا والذي يأخذ احتياجاتها التنموية وتطلعات شعب إثيوبيا بعين الاعتبار. 7 - الدولتان تلتزمان بالعمل في إطار اللجنة الثلاثية بحسن النية وفي إطار التوافق. كانت الأهمية الرئيسية لهذا البيان المشترك، هو أنه أعاد الأزمة إلي حيز التفاوض والبحث عن التفاهمات المشتركة بعد أن كادت تنزلق إلي الصراع، بحيث يتحقق لإثيوبيا ما تريده من تنمية، وفي نفس الوقت ترفع أو تخفف من الأضرار المترتبة علي مصر إلي الحد الذي يمكن قبوله أو التعايش معه، وتحافظ علي التعاون لصالح شعوب حوض النيل. طرح جديد ومفاوضات صعبة: نخلص من كل ما سبق إلي أن الجولة الحالية من المفاوضات في الخرطوم تدور في ظل ظروف مختلفة عما سبقها، وان هناك فرصة أفضل للوصول إلي حلول أو تفاهمات، خاصة وان الوفد المصري كما أعلن وزير الري المصري الدكتور حسام مغازي، يحمل طرحا شاملا ورؤية متكاملة، ليس للحل أزمة سد النهضة ولكن لحل أزمة المياه في النيل الشرقي الآن وفي المستقبل عبر وضع قواعد متفق عليها تراعي المصالح المشتركة، وتسعي إلي تعظيم الفوائد والمنافع لشعوب المنطقة ككل. ولكن لا ينبغي علينا أن نفرط في التفاؤل، فالأزمة معقدة وتتداخل فيها عوامل وإطراف متعددة، وسوف تحتاج إلي جهد شاق، وعزيمة وإصرار متوافران لدي مصر، ولكن ذلك يحتاج أيضا إلي أن تقابل إثيوبيا هذه الروح بالمثل، وحسنا فعل وزير الخارجية سامح شكري حين اتصل بنظيره الإثيوبى، وتوافق معه علي أهمية متابعة المفاوضات والتدخل إذا لزم الأمر، كما أعلن الرئيس السيسي في لقاءه الأخير بالصحفيين، بأنه مستعد لزيارة إثيوبيا مرة واثنتين وثلاث إذا تطلب الأمر للوصول إلي اتفاق. هذه روح جديدة نتمني أن تجد الأرضية المناسبة لكي تتجذر وتتحول إلي مشروعات مشتركة والي نماء وازدهار بدلا من الصراع والتوترات التي لن يستفيد منها إلا بعض القوي من خارج الإقليم سواء كان ذلك علي المستوي الدولي أو الإقليمي، ولن تجني شعوب هذه المنطقة من وراء ذلك سوي المزيد من الخسائر وفقدان فرص البناء والازدهار.