رغم أن عمرها الفعلى على أرض الواقع يبلغ 145 عاما فقط، إلا أنها تسكن عمر وفكر ووجدان المصريين من قبل التاريخ بتاريخ. وإذا كان افتتاحها الرسمى للملاحة فى 17 نوفمبر 1869 قد سبقه عشر سنوات من جهد وعرق ودماء وأرواح أجدادنا، فإن النماء والرخاء والسخاء ينتظرنا بدءا من أغسطس من العام المقبل بمشيئة الله. نتكلم عن قناة الخير. قناة السويس. الرئة التى نتنفس بها ومن خلالها حياة، وإذا لم يكن الأمر كذلك فلماذا اتجهت إليها الأنظار منذ القدم؟ منذ اكتشاف الرحالة فاسكو دا جاما طريق رأس الرجاء الصالح لم تعد السفن تمر على مصر بل تدور حول قارة إفريقيا، وبعد ضم بريطانيا العظمى الهند إلى ممتلكاتها أصبح الطريق حكرًا على بريطانيا وحدها. لذلك فكرت فرنسا أن تفعل شيئا يعيد لها هيبتها المفقودة، ولم يكن هناك أفضل من حفر قناة السويس. ولكن معظم تلك المحاولات باءت بالفشل بسبب وجود اعتقاد خاطئ بأن منسوب مياه البحر الأحمر أعلى من مياه البحر المتوسط. سبق هذا التاريخ زمن سحيق يضرب فى الأعماق كان خلاله حلم شق القناة يداعب فكر وخيال المصريين القدماء فى ربط البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر، وكان السبب الرئيسى لهذا التفكير هو موقع مصر المتوسط بين قارات العالم القديم، غير أن التنفيذ الأول كان يربط النيل بالبحر الأحمر وقام به الملك سيتى الأول عام 1310 قبل الميلاد. وأعيد بناؤها من جديد فى عهد الفرعون سنوسرت الثالث عام 1850 قبل الميلاد. الفكرة نفسها لم تبرح مخيلة العرب المسلمين منذ أن دخلوا أرض مصر، وها هو عمرو بن العاص - رضى الله عنه - يعتنى بالأمر وقبل أن يباشر العمل يرسل فى استشارة الخليفة عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - فيمنعه الخوف من أن يقترب الروم من مكة والمدينة والانتشار بسفنهم فى البحر الأحمر (بحر القلزم)، فقد كانت السيادة فى البحر لهم فى ذلك الوقت، وكان عدوانهم يشنونه باستمرار على العرب والمسلمين ويختطفون الناس الأبرياء من السواحل، كما لم يكن العرب أصحاب باع فى بناء أسطول بحرى خاص بهم. وبعد أقل من قرنين على تلك المحاولة أراد الخليفة العباسى هارون الرشيد حفر القناة لتيسير سبل التجارة والإمداد، ولكن السبب ذاته وقف عائقًا عن تنفيذ الفكرة. قناتنا كما حفرنا عمقها طولا وعرضا بأرواحنا قبل سواعدنا، ورويناها بدمائنا قبل عرقنا، اليوم نستكمل المشوار ونصل الليل بالنهار حتى يكون حلم القناة الجديدة الذى ظل يراودنا سنوات واقعا متحققا على أرض الواقع. وإذا كانت قناة السويس بوضعها الحالى معبرا مائيا ترمى كل سفينة مارة عليه السلام، وتدفع ثمن تذكرة المرور باعتبارنا مجرد "كمساري" فإن مشروع القناة الجديدة سوف يغير كثيرا من الوضع، إذ يعمل على تنمية منطقة القناة بأكملها وجعلها مركزا لوجستيا صناعيا وتجاريا، يفتح آفاقا لمشاريع اقتصادية ضخمة مستغلا الظهير الجغرافى للمنطقة، ورابطا لسيناء الغالية بالوطن الأم، ناهيك عما يوفره هذا المشروع العملاق من فرص عمل تفوق حاجز المليون فرصة، وزراعة 4 ملايين فدان خير، مع تشييد مجتمعات عمرانية جديدة جاذبة للسكان للتمركز بمحافظات القناة وسيناء. قناتنا لم نهنأ بخيراتها منذ أن حصل فرديناند ديلسبس من الخديوي سعيد فى 14 يوليو 1854 على فرمان عقد الامتياز لمدة 99 عاما من بدء تاريخ افتتاحها. كانت كل العقود والاتفاقيات الدولية مجحفة لحق مصر فى قناة السويس، وتدين بالولاء لفرنسا خاصة، وأوروبا على وجه العموم، دونما أهمية لأحقية مصر والمصريين، فكان هذا من دوافع الرئيس جمال عبدالناصر لإعلان تأميم شركة قناة السويس فى 26 يوليو 1956 قبل انتهاء عقد امتلاك بريطانيا للشركة بسنوات. القناة الجديدة لن يعمل بها سوى المصريين، ولن تكون خيراتها إلا للمصريين. عام واحد ويجنى المصريون ثمار عرقهم، وصبرهم، وخير قناتهم.