بعد معاناة طويلة, وغيبوبة دامت ستة شهور تقريبا, رحل في مثل هذا اليوم قبل خمس سنوات اليساري المثالي, رجل السياسة النظيف, بولنت إجيفيت رئيس الحكومة التركية الاسبق فحصيلة ما يملكه كانت شقة عادية باسطنبول, و أخري تمكن بمعاشه التقاعدي من شرائها بحي لوران في ضاحية يلديز بالعاصمة أنقرة. خمسون سنة من العمل السياسي عاش خلالها إجيفيت المولود في اسطنبول عام1925 محطات مهمة, بعض منها صنعها هو بنفسه عندما كان علي رأس السلطة التنفيذية, وتلك ستمنحه بعد وفاته صفة رجل الدولة بيد أنه أول رئيس حكومة يدفن في مقابر عظماء الدولة التركية, وبعضها الآخر كانت من فعل الآخرين الفاعلين علي مسرح السياسة الدولية. تمني والده رجل القانون أن يحذو حذوه ويمتهن المحاماة, لكن الابن المولع بالشعر والثقافة والفنون, فضل دراسة الآداب, وفي العاصمة البريطانية لندن يقترب من الصحافة التي سيدرسها بعد ذلك في الولاياتالمتحدة, وعندما عاد إلي بلاده اتجه علي الفور إلي عالم الصحافة والكتابة. ورغم أنه جاء من طبقة متوسطة ميسورة الحال نسبيا إلا أن كتاباته مالت إلي تبني قضايا البسطاء والفقراء وكان واضحا ولعه باليساريين المثاليين, وبتأثير من' رهشان' زوجته ورفيقة عمره لأكثر من55 عاما, يدخل العمل السياسي وتحديدا حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه مؤسس الجمهورية مصطفي كمال أتاتورك, ولم يمر وقت طويل فسرعان ما اسند له عصمت اينونو رفيق أتاتورك وخليفته في زعامة الجمهورية, حقيبة العمل في إحدي وزاراته ومع الانقلاب الثاني في عمر الجمهورية الكمالية1971 تعود الحياة السياسية إلي نقطة الصفر وكان طبيعيا أن يلقي القبض علي إجيفيت لكرهه الخلط بين السياسة والجيش. ومع عودة الحياة السياسية يعود إجيفيت الذي خرج توا من غياهب المعتقلات إلي العمل السياسي, وفي الانتخابات النيابية عام1973, حقق نصرا لافتا, إذ تمكن حزبه من احتلال المرتبة الأولي بنسبة تجاوزت33.3% وبعدد مقاعد185 مقعدا, لم يخف إجيفيت إعجابه بالزعيم التشيلي' سلفادور الليندي' فهو مثله لم يكن ماركسيا وإنما اشتراكي بالمعني الواسع للمصطلح, ومع الموت التراجيدي الذي أصاب الليندي علي مداخل القصر الرئاسي في العاصمة التشيلية سنتياجو دفاعا عن الحرية كان طبيعيا أن يرتاب إجيفيت في السياسة الامريكية إجمالا ولم تخل تصريحاته من نقدها وظل ارتيابه قائما حتي اعتزاله الحياة السياسية, لكن دون أن ينعكس ذلك علي مصالح بلاده بمعني أن إجيفيت عندما كان رئيسا للحكومة حرص أن يفصل بين الواقع المعقد وآرائه الشخصية.. في نفس الوقت كان إجيفيت يمقت العنف أيا كانت مبرراته ولهذا ناصب العداء لليمين المتطرف الذي أشاع الرعب والفزع في عموم البلاد خلال سنوات السبعينيات وكان يعلم أن هناك تواطؤا بين بعض مؤسسات الدولة والذئاب الرمادية الفاشية عنوان ذلك اليمين وهذا ما أعلنه في أكثر من مناسبة. وطبيعي أن يوضع تحت الرقابة وما أن تدخل البلاد نفق الانقلاب الثالث في12 سبتمبر عام1980 يعود إجيفيت مع أقرانه إلي جدران السجون, وكما هي العادة يرجع الجيش إلي ثكناته بعد أن قضي علي الفوضي وبالتزامن ينشق إجيفيت عن الشعب الجمهوري ليدخل اليسار الديمقراطي. كان إجيفيت مع هذا الخلط' الطوباوي' بين الاشتراكية والديمقراطية ورغم ذلك وعندما سيشكل حكومة انتقالية نهاية1998 لن يبتعد في سياساته عن أي حزب يميني آخر سبق وتولي الحكم فقط سيكون جل همه تحسين أحوال المهمشين والطبقات الدنيا التي عصفت بها نيران العولمة والخصخصة. أما عن تفسير نجاح اليسار الديمقراطي بزعامة إجيفيت في الانتخابات البرلمانية التي جرت مبكرة عن موعدها بنحو عام كامل في أبريل1999 فيعود إلي جملة أسباب فقطاع عريض من الشعب التركي ورغم مرور ربع قرن لم ينس تحرك إجيفيت السريع بخصوص الأوضاع المتردية للقبارصة الأتراك وقراره عام1974 بالتدخل العسكري لإنقاذ الامتداد التركي بالجزيرة, سبب آخر ربما لعبت الصدفة وحدها دور البطولة فقد حسب للحكومة الانتقالية إنجاز القبض علي الانفصالي زعيم منظمة حزب العمال الكردستاني الانفصالية عبد الله أوجلان في منتصف فبراير العام نفسه. ولم يمر العام نفسه إلا وتحصل أنقرة علي قرار من الاتحاد الأوروبي بقبول تركيا كعضو مرشح للانضمام وبالتوازي تشرع الحكومة في بدء اتخاذ إجراءات بشان تحسين أوضاع الأقليات وتحديدا الأقلية الكردية في سابقة لم تحدث من قبل في أي حكومة سابقة. إجيفيت لم يكتف بذلك فحسب بل سيأخذ قرارا تاريخيا آخر ألا وهو تعويم العملة الوطنية بشكل كامل, الأمر الذي أدي إلي خفض قيمة الليرة في الساعات الأولي من القرار بنحو70% بالأمر الذي أطاح باستقرار أصحاب الدخول الثابتة ولأن ما اتخذته الحكومة من خطوات لن تأتي نتائجها بصورة سريعة فكان طبيعيا أن تواجه بانتقادات حادة ولعنات من كل صوب وحدب. وما هي إلا سنوات قليلة جدا وتبدأ ثمار حكومة إجيفيت تظهر شيئا فشيئا وينتبه الرأي العام إلي قيمة الرجل وتعود من جديد سيرة ومسيرة إجيفيت, ورغم أن رحيل الأخير كان متوقعا بين لحظة وأخري إلا أن إعلان نبأ وفاته في الخامس من نوفمبر عام2006 أصاب البلاد بصدمة وخرج الالاف الي الشوارع لإلقاء النظرة الأخيرة علي الرجل العفيف نظيف اليد.