أخيرا أعلنت المحكمة الدستورية العليا في تركيا حكمها القاطع والنافذ, ورغم انه أقر بمعظم التعديلات التي اعدتها الحكومة, ووافق عليها البرلمان,وصادق عليها رئيس الجمهورية إلا أن ماقام بإلغائه وإبطاله وهو القليل اليسير والذي لايتعدي اجزاء من مادتين وليس كلهما يشكل عصب تلك الحزمة المثيرة للجدل, والحق ان رئيس المحكمة هاشم كليتش, كان قد مهد لهذا الحكم التوافقي معلنا قبل اسابيع ثلاثة انه من الصعب الغاء حزمة التغيير وعدد بنودها29 مادة بالكامل, وعلي اية حال ماتناولته المحكمة بالرفض كان هو المعضلة التي تمحور حولها كل الصخب في الحياة السياسية بعموم البلاد علي مدار الشهور الاربعة المنصرمة, فرغم التفاصيل التي تباري سياسيو العدالة في تفسيرها تارة والتقليل من أثارها تارة اخري الا ان الفقرات المحذوفة اوقفت وعلي نحو صارم اعادة هيكلة السلطة القضائية وتغيير بنية المحكمة الدستورية ذاتها. ولم يكن تأجيل الاجازة السنوية للبرلمان الي يوم16 يوليو الحالي مصادفة فالمحللون السياسيون علي خلاف توجهاتهم كانوا قد اكدوا في أدبياتهم خلال الاسبوعين الماضيين ان حزب العدالة الحاكم يخطط لاجراء انتخابات مبكرة وأشاروا الي انه في حال اصدار المحكمة الدستورية قرارها بالغاء التعديلات الدستورية هناك العديد من السيناريوهات المحتملة واهمها ان تستمر حكومة العدالة في طريقها اذا فاجأت المحكمة الدستورية الجميع وخالفت التوقعات بتأكيدها دستورية ما أقدم عليه الحزب الحاكم وبالتالي إجراء الاستفتاء والذي ستأتي نتائجه حتما في صالح اردوغان بل وضوء اخضر كيف يفعل المزيد ضد خصومه وكم هم كثر, وبالطبع لامعني لانتخابات مبكرة. اما اذا اصدرت المحكمة قرارها بالغاء كامل او جزئي لبعض التعديلات هنا يؤكد اهل الاختصاص ان رئيس الوزراء اردوغان سيعتبر هذا الحكم تدخلا سافرا في ارادة مجلس البرلمان المنتخب من قبل الشعب التركي وللرد عليه سيكون باجراء انتخابات تتزامن مع موعد الاستفتاء الشعبي بتاريخ12 سبتمبر( بحال إلغاء المحكمة الدستورية بعض المواد وليس كلها) والهدف زيادة اصواته من خلال ظهوره امام الجماهير في دور المظلوم كما حدث في انخابات عام2002 وكذا انتخابات عام2007 وفي كليهما حصد المركز الاول وبفارق كبير عن اقرب منافسيه وهو حزب الشعب الجمهوري. لكن يبدو ان ما يأمله اعضاء العدالة والتنمية صعب تحقيقه بيد ان هناك شكوكا تعززها استطلاعات الرأي التي تجري بين الحين والاخر في ان يمنح الشعب اصواته من جديد لهم وللامانة اردوغان المحنك يدرك ذلك تماما واصراره عكس ما يتبناه تيار سائد في حزبه علي اجراء الانتخابات في موعدها وعدم التسرع في اجرائها حتي ولو رفضت المحكمة التعديلات كلها او بعضا منها وهذا مرده العديد من المعطيات فزعيم العدالة يحتفظ في ذاكرته بتجربة الحكومة الائتلافية بزعامة بولنت اجيفيت(1999 2002) والتي تسرعت وقامت بتبكير الانتخابات غير ان نتائجها كانت مزرية فقد فشلت الاحزاب الثلاثة( اليسار الديمقراطي والوطن الام والحركة القومية) المشكلة للائتلاف الحاكم فشلا ذريعا بل انها لم تتمكن من تخطي نسبة ال10% للتمثيل بالبرلمان والعدالة قد يواجه نفس المصير فمفاجآت الحياة السياسية امر وارد وهذا يعود الي جملة اسباب تتلخص في تصاعد موجة الارهاب التي ادت الي مقتل عدد كبير من العسكريين في انحاء مختلفة بمدن جنوب شرق تركيا واستمرار نسب زيادة البطالة والعجز في ميزانية الدولة وتدني العديد من المؤشرات الاقتصادية في مقابل تقدم واضح لحزب الشعب الجمهوري بين صفوف الجماهير خصوصا بعد استقالة زعيمه السابق دنيز بايكال علي اثر فضيحة جنسية مع سكرتيرته وتولي كمال كليتش دار اوغلو مقاليد الامور. زاد ان مدن جنوب شرق الاناضول حيث الاغلبية الكردية فقدت ثقتها في امكانية ان يري مشروع الانفتاح الديمقراطي المعد من قبل حكومة العدالة والهادف الي التوصل لحل المشكلة الكردية النور ومن ثم فلن يحصل العدالة علي اصوات سكان تلك المناطق الملتهبة جراء العمليات المسلحة التي تدور رحاها في الجبال المحيطة بها وهناك سبب آخر شديد الدلالة الا وهو تضارب السياسات الحكومية حيال اسرائيل فتارة وعيد وتارة اخري مفاوضات سرية مع الدولة العبرية. والنتيجة انعدام الثقة وفقدان المصداقية في سياسة رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان المتبعة بمنطقة الشرق الاوسط بشكل عام المذهل في هذا السياق تلك المعلومات الواردة من كواليس الحكم بالعاصمة انقرة والتي اشارت الي بوادر انشقاق داخل الحزب الحاكم وبروز جبهة معارضة في صفوفه فعدد من نوابه لم يخفوا انزعاجهم وعدم ارتياحهم للسياسات المتبعة بملفي الانفتاح الديمقراطي والنتيجة التي آلت اليها التعديلات الدستورية والدليل علي ذلك تقديم مراد باش اسكي اوغلو نائب الحزب الحاكم عن مدينة اسطنبول والذي شغل منصب وزير لمدة سبعة اعوام استقالته من الحزب لرفضه اداء حكومته. وهكذا يبدو الطريق صعبا في وجه العدالة الذي لن يحقق في كل الاحوال ما سبق وانجزه وما حدث بالامس عميق في دلالته لانه ببساطة يشكل محاولة لفرملة جموح الحزب الحاكم والايام القادمة ستشهد مقاومة شرسة منه كي لاتجري انتخابات مبكرة خشية ان يكرر مأساة حكومة اجيفيت ولايتمكن من تخطي عتبة البرلمان وبالتالي فقدانه لكي شيئ: الباشباكلنك( رئاسة مجلس الوزراء) وكذلك عرش الكشك( اي القصر الجمهوري) في شنكاياي.