كانت المؤشرات الداعمة للمشاركة بالحضور وربما بالمداخلة في مؤتمر الوحدة الوطنية الذي دعت إليه نقابة المحامين كثيرة, فهو ينعقد لمناقشة قضية ملتهبة تحمل نذر احتراق الوطن لا قدر الله ثم هو ينعقد برعاية واحدة من أخطر نقابات الرأي والمشتبكة مع إشكاليات الحقوق والعدالة, ومن ثم تبقي الأكثر قدرة مهنيا علي تقديم رؤي قانونية تضبط العلاقات البينية داخل المجتمع, خاصة ونحن نسعي لدعم دولة المواطنة تفعيلا للمادة الأولي من الدستور وقوامها سيادة القانون, ويأتي تحت عنوان يحمل دلائل مهمة توحي بامتلاك من دعا إليه لمخرج محدد من الأزمة' معا من أجل مصر', وفي سياق اللحظة والحدث فإن كلمة' معا' تعني هنا تحالف الأقباط والمسلمين في مواجهة الخطر القائم والمهدد لأمن وسلام ووحدة الوطن. قيل في سياق الإعلان عن المؤتمر أن أبرز الحضور فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد محمد الطيب شيخ الجامع الأزهر وقداسة البابا شنودة الثالث بطريرك الكنيسة المصرية الأرثوذكسية, فضلا عن رموز المحامين المهمومين بالقضية الوطنية, الأمر الذي أضفي مزيدا من الثقل علي المؤتمر عند المتلقي. علي الجانب الآخر كانت الملاحظة التي استرعت الانتباه أن المؤتمر سيعقد في كبري قاعات مركز' الأزهر' للمؤتمرات, وهو أمر لا غبار عليه لو أن المؤتمر كان مخصصا لمناقشة شأن إسلامي, أما كونه يناقش قضية الوحدة الوطنية فكان من الأنسب أن يعقد في مكان لا يمثل طرفا من المعادلة الوطنية, كما فعلت نقابة الصحفيين في مؤتمرها الذي تعرض لنفس القضية, كانت البدائل الممكنة متوافرة وعلي رأسها مركز المؤتمرات الدولي بمدينة نصر والتابع للهيئة المصرية العامة للمعارض والمؤتمرات, وكذلك قاعة مؤتمرات المجلس الأعلي للثقافة بالأوبرا, بما تحمله من صفة الحيادية والاستقلالية. وقد انعكس هذا علي مجريات الأمور داخل فعاليات جلسة المؤتمر, فقد افتتح المؤتمر بتلاوة مباركة من آيات الذكر الحكيم القرآن الكريم في إشارة لتوجه المؤتمر, رغم أننا هنا كنا بصدد مؤتمر يناقش قضية وطنية ملتبسة ومحتقنة, ولسنا بصدد تقديم رؤية إسلامية دينية فيها, ولم يكن من المستساغ أن يطالب أحد بأن يعقب هذه التلاوة قراءة قسط من آيات الإنجيل, وأي اعتراض علي هذا يحسب اعتراضا علي الدين أو رفضا لسماع تلك الآيات الكريمة, مما يصب مزيدا من الملح علي الجرح. وعندما توالت الكلمات جاءت في مجملها تؤكد حقوق الأقباط في ذمة المسلمين, وهو طرح لم يأت بجديد ولم يحمل اقترابا من الأزمة المعاشة, وجاءت في جانب منها علي تأكيد تاريخية العلاقة بين عنصري الأمة واستدعت ملابسات ثورة19 والتلاحم الذي عاشته وأكدته, وبين الرؤية الدينية والرؤية التاريخية غابت الأطروحات القانونية التي تعالج كارثة معاشة ووطنا مستهدفا وأيادي تعبث في ثوابته وقوامه. ربما يمكننا أن نستثني من الماراثون الخطابي كلمة الأستاذ محمد الدماطي بحسب رصد أحد التقارير الصحفية وهو ما شهدته بنفسي' والتي كانت أقرب الي التعامل بنوع من الواقعية مع الحدث عندما أكد أن المشكلة لايمكن ان تحل بمثل هذه المؤتمرات ولابد من ان تشخص الحقيقة ولاتحل بالأحضان والابتسامات بقدر أن نضع أيدينا علي جوانب وأسباب الازمة مشيرا إلي أن هناك مشاكل للأقباط لابد ان تحل وأن هناك احتقانا طائفيا نابعا من احتقان سياسي مؤكدا أنه لن تحل مشكلة الاحتقان الطائفي ان لم تحل مشكلة الاحتقان السياسي ومحذرا مما سماه الثقافة الواردة من البدو ومنبها علي دور الاعلام الذي عليه ان يعي الدور المنوط به فتكفي قصة واحدة كي تشعل الصراع'. وبعيدا عن رصد الفشل التنظيمي للمؤتمر نورد بعض الملاحظات: فيما يحمل المؤتمر عنوان' معا' لم تستطع المنصة أن تترجمه, فبينما جلس فوقها ستة من المسلمين ضمت مسيحيا واحدا, تم اختياره مصادفة لأنه قس قبطي يميزه زيه الكهنوتي الأسود, وأجلس بجوار فضيلة الدكتور فريد واصل مفتي الجمهورية الأسبق حتي يعطي انطباعا معينا بالتلاحم والاخاء ويغطي غياب القطبين الدينيين فضيلة الإمام الأكبر وقداسة البابا البطريرك, وعندما بادر مقدم' الحفل' بالإعلان عن مشاركة القس بصفته مندوبا عن قداسة البابا أعلن القس أنه لا يمثل أحدا وأنه جاء بنفسه وعن نفسه. ومن المفارقات التي تكشف جانبا من توجه المؤتمر أن كلا الضيفين لم يتح لهما فرصة إلقاء كلمة من فوق' منبر' المؤتمر, وكأن دوريهما أن الصورة' تطلع حلوة'!!. وإزاء توالي الكلمات الاحتفالية قمت بالانسحاب من المؤتمر معلنا أنني جئت ممنيا نفسي بمناقشة جادة تضع النقاط فوق الحروف فيما يتعلق بتحليل اسباب وجذور الأزمة الحقيقية وتطرح رؤي لكيفية تجاوزها ومعالجتها, وكنت اتصور أن اوراق المؤتمر الغائبة كانت تحمل مشروعات قوانين أو خطوطا عريضة لمشروعات قوانين تترجم المادة الأولي للدستور التي تقول أن مصر دولة تقوم علي المواطنة, باعتبار ان المواطنة هي المدخل الصحيح وربما الوحيد لمواجهة الفتنة والتطرف والإرهاب, وتعيد التكاتف لمواجهة مشاكلنا الحقيقية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ومعها يستعيد المواطن ثقته في يومه وغده وتنضبط العلاقات بين طرفي العقد الاجتماعي. وبحسب التقارير الصحفية فقد أعلن السيد النقيب عن مبادرة تشكيل وفد من المحامين يطوف العالم كله يعلن عن سماحة هذا الدين وان الامة نسيج واحد, وهو بهذا يأتي متسقا مع الفكر الداعي للمؤتمر والذي يركز علي الدفاع عن الإسلام في مواجهة اتهامات غائمة وملتبسة, وكنت اخاله سيشكل لجنة تضم اطياف المحامين لوضع دراسة قانونية تخاطب الدولة والمؤسسات الدينية ومؤسسات تشكيل الوجدان والفكر الجمعي بما لها وبما عليها في القضية محل البحث قضية الوطن الواحد والمخاطر المحدقة به, والسؤال إن لم تضطلع نقابة المحامين بهذا الدور فلمن نتركه؟, هل يمكن ان يجزم أحد أن نقابة اليوم وربما الأمس القريب هي امتداد لنقابة سعد زغلول والشوربجي والبرادعي وغيرهم من اساطين الدفاع عن مصرية النقابة ودورها الوطني ؟ كان المؤتمر أشبه بسرادق الإنتخابات الذي يحفل بالكلمات الكبيرة والاحتفالية, وكانت الأزمة تتفاقم والمتحدثون يكلمون انفسهم يستدعون الشعر والتاريخ والدين, ويهربون من مواجهة واقع محتقن وملتهب, لكنهم في النهاية كانوا تجسيدا لواقع هو جزء من الأزمة. واراني بحاجة الي تكرار ما قدمت به الجزء الأول من هذه المقالة فبينما تبنت نقابة الصحفيين نسق المواجهة بحسم وصرامة اختارت نقابة المحامين الانحياز الي خيار التوظيف الانتخابي للأحداث ومن ثم المعالجة, والتي جاءت باهتة وذاتية. وقدر لي أن أحضر فعاليات كلا النقابتين, فكنت فيهما شاهد عيان, مشاركا في الأولي ومنسحبا من الثانية, رغم أني ذهبت في المرتين يحدوني أمل يقترب من اليقين أنني ذاهب الي المكان الصحيح, باعتبار الأولي جماعة الرأي والاشتباك اليومي مع الشارع والأحداث, والثانية جماعة الدفاع عن الحقوق والأكثر امتلاكا لمنظومة المواجهة القانونية لدعاوي الفوضي والتمييز وكل ما من شأنه تهديد أمن وسلامة الوطن. [email protected]