في الاسبوع الماضي, كنت قد تناولت في هذا المكان كتاب العرب والمحرقة النازية.. حرب المرويات العربية الاسرائيلية لجلبير الأشقر الأستاذ بمعهد الدراسات الشرقية والافريقية بجامعة لندن, والذي ترجمه بشير السباعي, وصدر بالاشتراك بين المركز القومي للترجمة ودار الساقي اللندنية. والحقيقة أن القاريء أمام عمل ضخم, ليس فقط من زاوية الحجم 497 صفحة من الحجم الكبير بل أيضا لأنه اسهام غير مسبوق في التأريخ للفكر السياسي العربي المعاصر, فهو علي نحو ما جدارية كبري لزمن المحرقة في الجزء الاول الممتد من عام1933 بعد صعود النازي الي السلطة وحتي عام1947 عشية إقامة الدولة العبرية واقتلاع الفلسطينيين حسبما حاولت أن أعرض الافكار الاساسية كما ذكرها الأشقر, أما الجزء الثاني من الكتاب فهو زمن النكبة الذي يعج بأطنان من الاكاذيب والتزييف أستطاع الأشقر دحضها وفضحها استنادا الي عشرات الوثائق والكتب والشهادات من جانب, كما قدم في الوقت نفسه ومن جانب آخر, الموقف الذي يعتبره كاتب هذه السطور الموقف الوحيد الذي يمكن الاطمئنان إليه ازاء الصراع العربي الاسرائيلي, وذلك علي عدة مستويات: المستوي الاخلاقي والسياسي والفكري في ظل ما يجري الآن, وتحديدا في ظل القرار الذي تم اتخاذه بيهودية الدولة العبرية, وما يترتب عليه من تأييد الاوضاع الحالية التي انتهت الي التهام أغلب الأرض الفلسطينية, وتحويل الضفة وغزة الي سجن ضخم حيث تسيطر اسرائيل علي الأرض والبحر والجو. يفحص الأشقر بدقة ودأب كعادته تاريخ التلقيات الاسرائيلية للنكبة, فبني موريس مثلا, والذي يعتبره الأشقر مؤرخ النكبة الاسرائيلي الرئيسي, صدر كتابه:1948: تاريخ الحروب العربية الاسرائيلية الأولي عشية تمكن كلمة عربية أخري من شق طريقها إلي المعجم الدولي وهي الانتفاضة, ويمثل موريس مع عدد محدود من الكتاب الاسرائيليين من يطلق عليهم المؤرخون الجدد, الذين يعتبر الأشقر انهم نتاج للصدمة التي سببها غزو لبنان عام1982 لجيل من الاسرائيليين الذين ولدوا بعد تأسيس الدولة العبرية. وأصحاب هذا الاتجاه يعترفون مثلا, ويؤكدون ما كان المؤرخون الفلسطينيون قد قالوه دوما عن الطرد الجماعي للسكان العرب من87 بالمائة من أرض فلسطين عام1948 لإقامة الدولة اليهودية, كما شجب اصحاب هذا الاتجاه اسطورة كانت قد ارتفعت إلي مرتبة الحقيقة في اسرائيل, وهي ان نزوح الفلسطينيين كان استجابة لنداء من القيادة العربية للنزوح مؤقتا من أجل العودة مع الجيوش العربية الظافرة بها بل انهم نزحوا علي الرغم من جهود القيادة اليهودية لإقناعهم بالبقاء! ومع ذلك فإن أصحاب هذا الاتجاه الذين يفضل الأشقر ان يسميهم مؤرخي ما بعد الصهيونية, يتناقضون في مواقفهم ولايسيرون في الشوط حتي نهايته, الا ان الحاصل هو انه للمرة الأولي هناك اصوات من داخل الدولة العبرية ارتفعت بالفعل لهز الاساطير الرئيسية التي عاشت عليها الدولة. علي أي حال, يؤرخ الأشقر لثلاث محطات رئيسية تنتظم تحت عنوان رئيسي هو زمن النكبة الأول هو زمن عبدالناصر بين1948 و1967 والثاني زمن منظمة التحرير الفلسطينية بين1967 و1988 وأخيرا زمن المقاومات الاسلامية من1988 وحتي الآن. وفيما يتعلق بزمن عبدالناصر مثلا, فإن المؤلف يقدم عشرات الحجج الداحضة للاكذوبة الشائعة بأن عبدالناصر دعا الي رمي اليهود في البحر, وهو ما لم يحدث مطلقا, والنص المنسوب لعبد الناصر هو: كنا نقول في اجتماعاتنا وخطبنا سنلقي اليهود في البحر وبعد انتهاء الخطبة نطمئن ويذهب كل منا إلي بيته كذلك يسخر صلاح سالم عضو مجلس قيادة الثورة الذي كان يتحدث الي الطلاب عام1954 من المسألة قائلا: عندما كنا في مثل عمركم, طالبنا, نحن أيضا بالسلاح, كيما يتسني لنا رمي اليهود في البحر, لكن اليهود هم الذين رمونا ويمضي الأشقر وهو ليس ناصريا بالمناسبة بل كاتب ماركسي لدحض التهمة التي ألصقت بجمال عبدالناصر وهي أنه كان معاديا للسامية, بل وتم بناء صورة شيطانية لناصر تقارن بينه وبين هتلر, وبين كتابه فلسفة الثورة وكتاب هتلر كفاحي, وبين التحالف بين عبدالناصر وخروشوف وبين ميثاق هتلر ستالين.. وهكذا.. لذلك يولي المؤلف عنايته لدحض هذه الأكاذيب من خلال اعادة قراءه ونقد أعمال كثير من المؤرخين الاسرائيليين, سواء ممن ينتسبون الي تيار مابعد الصهيونية, أو من ينتمون للاتجاهات التقليدية. وفي هذا السياق يفحص الوقائع والأحاديث الصحفية والتصريحات لعبد الناصر, إلا إنه لم يجد لديه سوي خطأ وحيد, عندما ذكر لصحفي هندي في حديث أجري معه عام1958 أن كتاب بروتوكولات حكماء صهيون يعبر عن واقع حقيقي, بينما المعروف والمؤكد أنه كتاب زورته الاستخبارات الروسية قبل ثورة1917, ويعج بالأكاذيب ذات الطابع المنحط, ويبدو أن مساعدي عبدالناصر والقريبين منه نبهوه الي هذا الخطأ, فلم يعد لذكره بعد ذلك مطلقا. ثم ينتقل إلي زمن منظمة التحرير الفلسطينية الممتد من عام1967 الي1988, عندما صعدت القومية الفلسطينية في أعقاب هزيمة1967 ممثلة في المنظمات المسلحة الناشطة في صفوف اللاجئين الفلسطينيين, وتشكلت من عدة اتجاهات تراوحت بين السلفية الاسلامية والماركسية, إلا أنها سرعان ما أصبحت تحت سيطرة اتجاهين, الاول اتجاه نزعة قومية لببرالية, والثاني اتجاه نزعة قومية يسارية يستلهم الماركسية اللينينية وكان مستقلا عن موسكو حسبما عبر الأشقر.. ومنذ عام1968 بدأت منظمات الكفاح المسلح الفلسطينية في فرض سيطرتها علي منظمة التحرير, ووفق المؤتمر الدولي المنعقد في القاهرة عام1969 قدمت المنظمة برنامجا مختلفا كان من أبرز نقاطه كما كتب المؤلف: لم تعد المسألة مسألة رمي اليهود في البحر, بصرف النظر عن طول عيشهم علي الأرض الفلسطينية, بل أصبحت, وبشكل واضح, مسألة اقامة دولة مفتوحة لجميع سكان البلد الاصليين أو المهاجرين اليه بصرف النظر عن عرقهم او لونهم او ديانتهم. ووفقا لبرنامج الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين فإن اسرائيل حرصت علي تصوير حربنا ضدها كحرب عنصرية تستهدف القضاء علي كل مواطن يهودي وإلقائه في البحر. وهدفها من وراء ذلك حشد جميع المواطنين اليهود وتعبئتهم لحرب حياة او موت, وبالتالي فإن خطأ استراتيجيا في حربنا ضد اسرائيل يجب أن يستهدف فضح هذا التزييف, ومخاطبة الجماهير اليهودية المستغلة والمضللة وتبيان التناقض بين مصلحة هذه الجماهير في العيش في سلام وبين الحركة الصهيونية والقوي المتحكمة في دولة اسرائيل ويضيف البرنامج: ان هدف حركة التحرر الفلسطينية هو انشاء دولة وطنية ديمقراطية في فلسطين يعيش فيها العرب واليهود كمواطنين متساويين في الحقوق والواجبات. ويمضي الأشقر في فحصه وتدقيقه لمواقف منظمة التحرير والمعارك التي خاضتها, وكانت من بين نتائجها الاساسية تغيير صورة الفلسطيني, والاشتباك للمرة الأولي مع واقع جديد تماما لعبت فيه البندقية دورها, كما لعبت المواقف الجديدة التي تعاملت مع الشأن الاسرائيلي باعتباره امرا لا يكفي مجرد ادانته او رفضه, بل هو واقع ليس مطروحا او حتي ممكنا تغييره بالخطب الحماسية الرنانة. والحال ان انتقاضة الحجارة خلال عامي1987 1988 اسهمت في الحط من صورة اسرائيل في العالم من ناحية, وصورتها لدي الاسرائيليين أنفسهم. فالاحتلال المنخرط في القمع الوحشي لسكان الاراضي المحتلة يجري الحفاظ عليه بالقوة الغاشمة, وينطوي علي جرائم حرب لم يتم التحقيق فيها مطلقا. اما زمن المقاومات الاسلامية, كما يسميه المؤلف, فيمتد منذ عام1988 وحتي الآن, وكان غزو اسرائيل للبنان الشرارة التي ادت الي تكوين حزب الله اللبناني الذي اعلن تأسيسه رسميا عام1985, كما ادي القمع الاسرائيلي لانتفاضة الحجارة إلي تأسيس حماس هذا فضلا عن الاوضاع المحلية والدولية الجديدة في ذلك الوقت, فالضربة القاصمة التي وجهت لمنظمة التحرير في لبنان ورحيلها إلي تونس وتوزع قواها في المنافي, وافول القومية العربية اليسارية وفقدان الاعتبار الذي طال الشيوعية والثورة الايرانية التي نجحت علي هذا النحو الفريد ورحيل السوفييت عن افغانستان. كل هذه التفاصيل خلقت واقعا جديدا, وحسبما كتب الأشقر: والحال ان الاسلحة المتزايدة للأشكال السياسية والشعبية والاجتماعية والقومية للاحتجاج سارت يدا بيد مع اسلحة المجتمعات العربية وهي شكل جديد لتوسع القومية بأكثر مما هي مجرد عودة للدين انعكست في التغيرات والتي يمكن للجميع رؤيتها. وفي الوقت نفسه شهد المجتمع الاسرائيلي صعودا غير مسبوق للاصولية اليهودية وكان الشعار الانتخابي لحزب شاس اليميني الذي حرك مئات الألوف من اليهود ذوي الثقافة العربية: اعيدوا مجد ميراث الجدود واحيوا ما تقادم من جديد. وينتهي الكاتب بعد هذا البحث والفحص والتدقيق لما يزيد عن خمسين عاما من الاحتلال والحروب المتوالية طرح ضرورة الحوار بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي ولكن يجب أن يضع مثل هذا الحوار مجموعة من الاعتبارات المهمة لعل من أهمها انه لا يمكن انكار الطبيعة العنصرية للمجتمع الاسرائيلي علي كل من المستويين الايديولوجي والمؤسسي بينما ضمت الحكومات الاسرائيلية وزراء عنصريين ساخرين مثل رحبعام زيئيفي وافجيدور ليبرمان, دعوا إلي نقل مواطني اسرائيل العرب مع او دون نقل مصاحب للارض لتحقيق هدف اسرائيل طاهرة من العرب. فهل هناك امل مع كل ذلك؟ الواقع انه ليس امام الفلسطينيين المحتلين والمحاصرين والمعزولين الا التمسك بالأمل والسعي نحو تحقيقه في ظل ظروف محلية وعالمية ضد هذا الأمل او علي الأقل لا تساعد علي تحقيقه