تعتبر المواطنة واحدة من أهم صناعات العصر الحديث, فقد هيمن علي عالم العصور الوسطي نظام الطوائفية, حيث يتكون المجتمع من طوائف متنوعة ومختلفة علي أساس الدين والمذهب والثقافة والمهنة والحي السكني, وكان لكل طائفة من تلك الطوائف, ثقافتها ومصطلحاتها ونظام تعليمها الخاص ومثلها الأخلاقية وعاداتها المختلفة ونظامها الداخلي الخاص, ومازالت القاهرة تحمل لنا أسماء بعض تلك الطوائف, التي تؤكد وجودها المستقل, فهناك حارة اليهود والأرمن والشوام والمغربلين والفحامين والنحاسين والسكرية, ولم تكن هناك ضرورة موضوعية أو وطنية, لكي يربط بين تلك الطوائف رابط أو يجمعها جامع أو مشترك, وكان النظام السياسي يتكون من أسرات أمبراطورية حاكمة في جانب, ثم رعايا في الجانب الآخر, ولم تكن للدولة في ظل تلك التركيبة الاجتماعية ونمط الإنتاج الزراعي الإقطاعي السائد سوي وظيفتين اثنتين, وهما: جمع الضرائب, والأمن ببعديه الخارجي والداخلي. كان هذا هو النظام السائد في جميع بقاع العالم شرقا وغربا طوال العصور الوسطي مع اختلافات محدودة هنا وهناك. ولقد شهدت أوروبا مطلع العصور الحديثة, تغييرات جذرية إذ نشأت ونمت الطبقة البرجوازية التي أسست للنظام الرأسمالي ثم سعت لتحطيم علاقات الإنتاج الإقطاعية للحصول علي المواد الخام والأسواق وتحرير البشر من ربقة العلاقات الإقطاعية, ولم يكن من الممكن أن يتم كل هذا بدون تحطيم الإقطاعيات والإمارات الطائفية والدوقيات الصغيرة, وإنشاء دولة ونظام وثقافة قومية يتحول فيها ولاء الأفراد من الطائفة إلي الوطن الكبير, أي أن يصبحوا مواطنين لا رعايا. وكان هناك العديد من الأساليب التي أدت الي دعم فكرة المواطنة بدلا من الطوائفية, فالاقتصاد الرأسمالي نفسه يتحدد موقف الأفراد فيه تبعا لموقعهم في علاقات الإنتاج, وليس لدياناتهم أو ثقافاتهم, وكذلك كان النظام السياسي, وقد سبق أن أسست لتلك التغييرات الفلسفات الإنسانية والليبرالية والعلمانية والتي كان أبرز نتائجها كف يد الكنيسة ورجال الدين عن التدخل في حياة الناس وشئونهم الدنيوية. كما لعبت المدرسة الوطنية دورا محوريا في دعم مفهوم المواطنة القائم علي الانتساب للدولة والنظام لا للطائفة أو الدين. وهكذا تحولت الولاءات الطائفية والعائلية والقبلية الي ولاءات ثانوية, ويصبح الولاء للوطن هو الولاء الأول, وتختفي تدريجيا التقسيمات علي أساس الطائفة والعقيدة والقبيلة والنزاعات التي تترتب عليها, ويحل محلها تدريجيا التقسيمات علي أساس الإيديولوجيا يمينا ويسارا ووسطا أو علي أساس الثقافة محافظين وليبراليين أو علي أساس المصلحة الأقتصادية رأسماليين ورجال أعمال وعمالا وبرجوازية متوسطة وصغيرة وتظهر التشكيلات السياسية الحديثة بدلا من الطوائف القديمة فيظهر الحزب السياسي والنقابات والروابط والاتحادات والجمعيات الأهلية كما ينعكس ذلك الاتجاه في ظهور المفكرين والفلاسفة الوطنيين وألوان من الفنون الوطنية في الموسيقي والشعر والغناء بل تنعكس علي ظهور الفرق والأبطال الرياضيين. كان هذا هو الطريق الذي سكلته دول أوروبا, إنجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وأسبانيا وغيرها في الطريق من طائفية العصور الوسطي إلي المواطنة في العصور الحديثة. ومازالت المواطنة في تلك البلاد تتعزز بفعل نظم تعليمية ومدارس علمانية وليبرالية, بل تتجاوز المواطنة إلي الآفاق الرحبة للإنسانية. وفي مصر بدأ التأسيس للمواطنة في عهد محمد علي(1805-1848) ففي محاولته تأسيس دولة توسعية حديثة علي أنقاض مساحات عديدة من الإمبراطورية العثمانية لم يفرق بين عناصر السكان حين كان يبحث عن معاونيه في مشروعاته المختلفة, ومن هنا فقد كان بينهم المسلمون والمسيحيون بل الفرنسيون والإيطاليون والشركس والأتراك والأكراد وغيرهم. فقد أدرك أن النظام هو أساس هذه الدولة الحديثة, وأن هذا النظام العام الموضوعي المجرد سيكون أداة تلك الدولة, وسيكون في الوقت نفسه أداة انعتاقها من غياهب العصور الوسطي وحكم الخلفاء الأتراك, ومن هنا فقد حرص علي اختيار معاونيه علي أساس الكفاءة والمهنية, بصرف النظر عن دياناتهم, فكلوت بك يؤسس للطب والتنظيم الصحي الحديث, والكونيل سيف يؤسس الجيش, ودي سريزي يؤسس الأسطول, وشامبليون يؤسس لعلم المصريات, كما يستعين بالسان سيمونيين في العديد من مشروعاته التنموية. وفي الإدارة والمالية, عين محمد علي من الأقباط المصريين, باسيلوس غالي مديرا للحسابات, وبطرس أرمانيوس مديرا لمدينة برديس, وفرج ميخائيل لدير مواس, وميخائيل عبده للفشن, وتكلاسيداروس لبهجورة ورزق أغا للشرقية, وحنا الممقبادي سكرتير عموم قبلي, ووجيه ابراهيم كبيرا لكتبة ديوانه, طبعا هذه بعض النماذج لتأكيد أن بناء الدولة الحديثة يحتاج نظاما يؤكد مبدأ المساواة بين جميع مواطني الدولة, وهو النظام الذي أرساه محمد علي, وسار عليه خلفاؤه. غير أن غلبة الطابع العملي والعسكري علي مشروعه قد انعكست علي غياب الأديان الفكرية والسياسية التي تؤسس للمواطنة الحديثة في مصر. وعندما بدأت المجالس النيابية في البلاد منذ مجلس شوري النواب سنة1866 كانت جميع مجالس النواب المصرية تضم المسيحيين إلي جانب المسلمين, وجميع لجان وضع الدساتير المصرية كذلك, ولايجد الخديو إسماعيل غضاضة في أن يكون أول رئيس وزراء لمصر, وهو نوبار باشا, مسيحيا, وتلاه في عهد عباس التاني بطرس غالي, وفي عهد الملك فؤاد يوسف وهبة,ولكن يبدو أن الاحتلال البريطاني(1882) قد استفز روح المواطنة لدي المصريين, فكان السعي لاستقلال مصر وترقيتها قسمة مشتركة بين المسلمين والمسيحيين, بل تعزز الاتجاه نحو المواطنة بالدعوة للاستقلال عن الخلافة العثمانية عبر دعوة أحمد لطفي السيد(1872 1963) مصر للمصريين غير أن ذلك السعي نحو ترسيخ قيم المواطنة قد أخذ شكله المتكامل بعد ثورة1919, والتي اشتركت فيها الأمة بجميع طوائفها, وجاء دستور1923, الذي علي الرغم من أنه نص علي أن دين الدولة هو الإسلام, إلا أنه قد أسس لدولة حديثة مدنية في مختلف أنشطة المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. بل ويتولي ويصا واصف رئاسة البرلمان, مؤسسة التشريع والرقابة الأولي في البلاد وعندما تعرض الوفد لانشقاق السبعة ونصف, كانت لجنته العليا تتكون من ثلاثة أقباط واثنين فقط من المسلمين, والوفد هو الحزب الممثل للأمة المصرية قبل يوليو ولم تعرف رئاسات منصات القضاة حتي أعلي درجاتها منذ تأسيس نظامنا القانوني الحديث أي تمييز بين مسيحي ومسلم, وجميع أبناء جيلي سيظلون يذكرون بكل العرفان القاضي العظيم المرحوم حكيم منير صليب, وحكمه الذي برأ ألفا من المتهمين في أحداث يناير1977. والي جانب وعي الحكام وقادة الأحزاب السياسية التي تتولي الحكم بالمواطنة كقاعدة أساسية في حكم البلاد وإشاعة ثقافة سياسية مستنيرة, فقد ساهمت المدارس والجامعة في تخريج طبقة من المثقفين الليبراليين الذين ساهموا في غرس ثقافة حقيقية للمواطنة والتفاعل بين المجتمع ومختلف التحديات الثقافية التي تواجهه علي أساس من تلك المواطنة. ومن هنا فقد كانت الاختلافات حول تلك التحديات تدور حول محاور: الأغنياء والفقراء, اليمين واليسار, أنصار الأقلية أو الأغلبية, المحافظين والمجددين الأميين والمتعلمين, وغيرها من تقسيمات مدنية حداثية, لا يعتبر الدين أو المقاييس الدينية أحد معاييرها, فهل يمكننا ان نعيد صياغة اختلافاتنا بحيث تصبح اختلافات ثقافية وسياسية حتي نتجنب مصير الصومال والسودان وأفغانستان؟