لا نملك ترف التلاعب بمقدرات الوطن, في سبيل تأكيد مكاسب ما لحساب طائفة أو جماعة, وقد حفلت الأيام أو قل الأسابيع القليلة الماضية بأحداث راحت تعبث بهذه المقدرات لم تكن عفو الخاطر تلقفتها العديد من آليات الإعلام لتصنع منها قنابل حارقة كادت تشعل نارا تأتي علي الأخضر واليابس, ولا أود أن أنزلق إلي تلافيف نظريات المؤامرة والاستهداف ولإن كنت استشعر آثار أقدامها. وعندما شرعت في كتابة هذه السلسلة من المقالات لم أكن أتخيل أن الأحداث المتلاحقة ستشكل سطورها بهذا التسارع, بل كنت متجها لاستقراء أحداث مضت وتحليل بعض زواياها والخروج بنتيجة مؤداها حتمية فصل الدين عن السياسة ومن ثم عن السلطة, وتنقية مسيرة المؤسسات الدينية لتعود الي دورها الروحي الدعوي والرعوي كواحدة من مؤسسات المجتمع المدني وتصبح اضافة لخيار الدولة المدنية العلمانية, لنتفرغ لمعركة التنمية والتنوير للخروج من نفق التخلف بكل ابعاده ولنلحق بركب الدول المتقدمة بعد طول قعود. كانت السطور الأخيرة في تلك الأحداث تصريحات القطب الديني البارز الأنبا بيشوي سكرتير مجلس الأساقفة ومطران دمياط, والدكتور المستشار سليم العوا, وقد تناولتهما في مقال الإسبوع الماضي, ثم أعقبها ما جاء بمحاضرة الأب المطران متعلقا بتساؤلاته حول بعض آيات القرآن الكريم والتي أثارت موجات عاتية من الاحتجاج باعتبارها تشكيكا وتعريضا بنص مقدس ما كان يجب تناوله بهذا الشكل خاصة وأنه طرح في مؤتمر مفتوح وليس في أروقة البحث في معاهد الأديان المقارنة. وكان من الطبيعي أن تلتهب الأجواء والتي هي بالأساس محتقنة ومتربصة, وعلي ضفافها يجلس محترفو الإثارة والتهييج وقد جاءتهم الفرصة سانحة وموثقة, فخرجوا بها من مجرد رأي يمكن الرد عليه بالحجة والبينة والدراسات المتخصصة الي ثورة عارمة تتهم الكنيسة بكل ما يمكن أن يقال في قاموس التشكيك والتجريم, الأمر الذي اضطر قداسة البابا للاعتذار عنه لجموع المسلمين عبر الفضائية المصرية ليحجم ويمتص الغضب العارم وأظنه نجح جزئيا في هذا وإن بقيت النار قابعة تحت الرماد مهيأة للاشتعال مع هبة ريح جديدة من هنا أو هناك. وأعتقد أن المسألة تحتاج الي تناول متعمق يتجاوز قشرة المشاعر ويخطو أبعد من مجرد علاج العرض دون المرض, ولا يقع في فخ الترحيل الي المجهول, قد يبدأ علميا وعمليا وعلي ارض الواقع وباستقراء تاريخ الاحتقان المزمن بتشكيل مجلس قومي للسلام المجتمعي, يضم خبراء العلوم السياسية وعلم الاجتماع والمستنيرين من الرموز الدينية والمهمومين بالشأن العام والأحزاب ورجال القانون والقضاء تكون مهمته الأولي, في شفافية ومكاشفة ومصارحة وتجرد, وضع روشتة علاج قابلة للتطبيق, تبحث في الأسباب والروافد المغذية للأزمة ومن ثم العلاجات الواجبة سواء علي المدي القصير أو المتوسط أو البعيد, وكيفية ترجمتها الي حزمة من القوانين العامة والمجردة والملزمة تعيد للشارع انضباطه وتجانسه, وتحدد اطار عمل المؤسسات المشكلة لوجدان الشارع وفكره التعليم والإعلام والثقافة باتجاه تفعيل ثقافة الحوار والقبول المشترك وتعظيم قبول التعددية الثقافية والدينية والفكرية دون تخوين أو تشكيك أو إقصاء واستعلاء. وأري في ذات السياق أننا بحاجة ماسة الي تحرك علي الأرض لا تحكمه المواءمات أو التوازنات يتبناه معالي المستشار النائب العام بفتح ملف الاحتقان الطائفي, المتجاوز وربما المولد للفتنة الطائفية وما تحمله من أعمال إجرامية, بما فيها تلك التي تمت معالجتها بما سمي بجلسات الصلح العرفية المهدرة لسيادة القانون, وتقديم الفاعلين فيها تحريضا أو تأليبا أو تنفيذا, للعدالة, وبالتوازي يتم تحقيق سياسي رفيع المستوي لكل هذا. علي أن الصدمة التي أنتجتها تساؤلات نيافة الأنبا بيشوي المتعلقة بتاريخية بعض نصوص القرآن الكريم, أفاقت المجتمع علي تفشي ظاهرة التراشق بين الأديان والتي تجب مواجهتها من جذورها الممتدة لعقود طويلة ولطالما نبهنا اليها لكنها لم تستوقف أحدا بل ساقوا لها ما يبررها, حتي جاءت لحظات الإفاقة الصادمة المصاحبة للتصريحات الأخيرة, والتي لم تكن ذات صلة بالمؤتمر الذي جاءت في فعالياته, والذي يحمل عنوان تثبيت العقيدة, ولا يتصور أن يكون تثبيت العقيدة من خلال تناول عقائد الآخرين, وهو نسق يتبناه كل من يهاجم عقائد المخالفين لهم. يبقي أن نلتمس من فخامة الرئيس بما له من صلاحيات دستورية أن يصدر قرارا بقانون يجرم اي افعال أو أقوال مكتوبة أو مذاعة عبر البث المسموع والمرئي تتعرض للأديان بالتشكيك أو التجريح مهما كانت المبررات أو الخلفيات أو الأهداف, باعتبار أن أمن الوطن وسلامه مقدم علي صراعات الأديان أو قل توظيف مساحة الاختلاف الطبيعي بينها في تحقيق مآرب ذاتية ضيقة أو فرض سيطرة زمنية لم تكن يوما ضمن أهداف الدين في جوهره أو مبناه. ولعل الدرس المستفاد من الأحداث الأخيرة هو التنبه لحتمية حماية وطننا الذي يستحق منا ان نتكاتف من أجل بقائه ورفعته, أما الفرقاء المتبلدون فنقول لهم لا تذبحوا الوطن. الصدمة التي أنتجتها تساؤلات نيافة الأنبا بيشوي المتعلقة بتاريخية بعض نصوص القرآن الكريم, أفاقت المجتمع علي تفشي ظاهرة التراشق بين الأديان الدرس المستفاد من الأحداث الأخيرة هو التنبه لحتمية حماية وطننا الذي يستحق منا ان نتكاتف من أجل بقائه ورفعته [email protected]